حين كتب آلان دونو عن « الميديوكراسي »، الذي عنى به حكم التفاهة، لم يكن، ربما، يتصور أن التفاهة قد لا تكون بالضرورة صناعة، وراءها مختبرات ومنظرون.. فقد تكون التفاهة أحيانا طريقة للحكم والتحكم والحكامة، وما شئت من مشتقات الجذر اللغوي « حكم »، سوى الحكمة طبعا.. طريقة قائمة على الصدفة فقط.. فلا تخطيط ولا استشراف للمآلات.
وحين أتأمل بدون قدرة على التفسير تطورات الأحداث وردود الفعل محليا وعالميا بخصوص ملفات، استأثرت بغير قليل من اهتمام الرأي العام والنخب والصحافة والخارج (دولا ومنظمات)، ملفات مثل حراك الريف، الذي ابتدأ في حيز جغرافي صغير بمطالب يمكن التفاوض حولها والاستجابة لها في أقل من ساعة، وتطور ككرة الثلج ليصل إلى شرخ كبير، زاد اتساعا بين المنطقة والمركز، مما يهدد الوحدة الوطنية وممكنات العيش المشترك، أو ملف هاجر الريسوني ومن معها، الذي بدأ باتهامات سخيفة أشبه بالنكتة التي لا تضحك سوى قائلها، لتنتهي بأحكام قاسية، أحكام بمثابة ضربات جزاء مجانية، تمنحها الدولة لمن من مصلحته تصوير المغرب بلدا لم يتخلص من حكم القبيلة والعشيرة، بلدا لا تحس فيه بالأمن، وأنت تتحدث مع من تحب في الهاتف.. الهاتف الذي طورته عقول استثنائية ليصبح ذكيا في وظيفته التواصلية، أضحى يقود للسجن بتهم لم تكن لتخطر على بالك، حتى في أقصى حالات استخدامك لحقك في « سوء النية » من أجهزة، لا ينفع معها المثل المشهور « دير النية وانعس مع الحية ».
هذه الملفات وغيرها، تجعلني أصدق بلاغ النيابة العامة « المشهر » بهاجر الريسوني في الشق المتعلق بالصدفة… تلك الصدفة التي شرحها خالد الجامعي في رسالته لملك البلاد.. شرحها دون حاجة إلى تفكيكية أو بنيوية أو تأويلية.. فهي صدفة عارية حتى من أوراق توت لستر سوأتها المنظورة للفرجة.
الصدفة وحدها هي التي قادت ستة من رجال الأمن لانتقاء سيدة وخطيبها غير معروفين لديهم أمام باب عمارة، يدخل ويخرج منها العشرات، للاشتباه في خضوع هذه السيدة لإجهاض غير قانوني.
الصدفة وحدها هي التي قادت « نية » شرطة الأخلاق لاعتقال صحافية تنتمي لجريدة مدان مؤسسها بتهم لها علاقة بأسفل البطن، لتدان بدورها بسبب أسفل البطن هذا.. فالصدفة لا تتقن سوى الضرب تحت الحزام..
الصدفة هي التي جعلت مراقبين في سوق أسبوعي بنواحي مريرت يضبطون بائع خضر وحيد، يستعمل الأكياس البلاستيكية الممنوعة، والصدفة وحدها جعلت هذا البائع ليس سوى سعيد أفريد، الناشط المدني بالمنطقة، والمعروف بتدويناته الحادة في معارضة السياسات القائمة، ومشاركته الفعالة في كل الحركات الاحتجاجية.
الصدفة وحدها هي التي جعلت فريقا من الشرطة يذهب إلى بيت الناشط العشريني في الرباط إدريس بوطارادا لاعتقاله، بناء على ما كان ينشره في مواقع التواصل الاجتماعي حسب المحاضر، لكنها صدفة وجدت عنده كمية صغيرة من المخدرات معدة للاستهلاك حسبها، ليحكم بسنة سجن نافذا، قضاها كاملة، وبعد خروجه لم يمر وقت طويل، حتى تم إلقاء القبض عليه صدفة، وحين تفتيش جيوبه، وجدت حسب المحاضر كمية من المخدرات معدة للاستهلاك مرة أخرى، وتم الحكم عليه مجددا بأربعة أشهر.
الصدفة وحدها هي التي جعلت المعفيين من الإدارة التربوية بداية هذا الموسم الدراسي كلهم من جماعة العدل والإحسان، والصدفة جعلت مدبجي قرارات الإعفاء في تخاطر روحاني خارق يكتبون تلك القرارات بالصياغة نفسها..
والصدفة وحدها انتقت فنانا تشكيليا اسمه كريم أمغار، ليتم اعتقاله بناء على مكالمة هاتفية بين شخصين تفيد مشاركة شخص يحمل اسم كريم أمغار في تظاهرة أفضت لأحداث عنف حسب النيابة العامة بنواحي الحسيمة، مع العلم أن من يحملون هذا الاسم بالمئات في الريف، لكن قانون الصدفة انتقى هذا الفنان التشكيلي ورجل التعليم دون البقية، والصدفة وحدها جعلت النيابة العامة لا تنتبه أن تاريخ المكالمة سابق لتاريخ تلك المظاهرة التي اتهم بالمشاركة فيها.. وبسبب هذه الصدفة بدورها أدانته المحكمة في طوريها الابتدائي والاستئنافي بعشر سنوات سجنا نافذا، فحكم الصدفة أقوى من حكم المنطق.
سيكون من المفيد أن نوفر ما ستكلفه اللجنة التي سيتم تشكيلها من أجل وضع تصور للنموذج التنموي الجديد، وأن نستعيض عن كل ذلك بالنموذج الصدفوي الجديد، فهو لا يحتاج إلى دراسات ولا إلى خبراء، بل يحتاج إلى الخيال غير العلمي.