شخصيا، لم أعط لعبارة «الشعب خصو يدير خدمتو» التي ذكرها السيد عزيز أخنوش في كلمته للمغاربة المقيمين في إيطاليا أهمية كبيرة، فقد كنت أؤولها على التأويل الحسن، وأظن أن الرجل يقصد أن مسؤولية الشعب أن يواجه كذب هذه الحملات من خلال التأطير والتوعية. صحيح أن النقد الذي وجهه الأستاذ عبدالإله بنكيران لكلمة أخنوش، استوفتني كثيرا، لاسيما استشكاله لهذه العبارة وتخوفه من أن يكون مدلولها يحمل تأويلا خطيرا يستبيح استعمال ما يُسمى بـ»عنف الشعب» أو «خلايا الشعب التأديبية» لمواجهة هذه التعبيرات، لكني مع ذلك تركت هذا الاستشكال جانبا، وبقيت على موقفي السابق عينه.
لكن، صدمتي كانت كبيرة حين صدر بلاغ المكتب السياسي للأحرار، يرد فيه على كلمة بنكيران، ويرى أن المسؤولية «لا تقتصر فقط، على القضاء، بل يجب أن تمتد إلى كافة المواطنين».
كان من الممكن قراءة لغة هذا البلاغ بالتأويل الإيجابي السابق عينه، لكن سياق الزمني، ومضمونه السجالي التفاعلي مع كلمة بنكيران، رجحت أن يكون المقصود هو ما تم التخوف منه، أي عدم الاقتصار على القضاء في مواجهة هذه الإخلالات الخطيرة، والتوجه نحو «شرع السيبة»، باسم الدفاع عن الثوابت.
ليس مهتمي أن أخوض معركة مع الأحرار ولا مع السيد عزيز أخنوش، فالقضية، ربما، أكبر من ذلك، وهي ترتبط بأزمة أفكار في مواجهة ظاهرة تعبيرات شاذة، وأن هناك من لم يعد في خياله السياسي متسع لتوليد الخيارات، وبدأ يفكر في استعادة منطق السيبة في الردع و»التربية».
لنفكك المشكلة بهدوء، ولندخل برفق ولياقة واستئذان لبعض الحدود حتى نتمكن من الفهم. فالذي يبدو أن ثمة مشكلة نتجت عن سوء فهم لسلوك ملكي راق، تم إنتاجه مرات في سياق توضيح الوجه الحقوقي والإنساني لملك مواطن. وذلك حين تنازل الملك عن حقه في المتابعة في حق من يسيء إليه، ربما، لأكثر من مرة، حتى صار هذا السلوك قاعدة في تمثلات الرأي العام وطبقة من السياسيين والمسؤولين، فلما وقعت نازلة هذه التعبيرات بقدر من التوارد المحدود، صار البحث عن خيارات أخرى غير العدالة، أو البحث عن خيارات تتيحها العدالة غير توجيه الاتهام بالإساءة للملك خوفا من أن يتم الاصطدام بذلك التمثل، أو مسايرة لمنطق مرجعيات حقوقية تعتبر استهداف المؤسسات ورموز البلاد جزءا من حرية التعبير!
والحقيقة، أن هذه الإكراهات والجدران التي بنيناها بأنفسنا، وضعتنا في ورطة حقيقية في التعاطي مع هذه التعبيرات الشاذة، إلى الدرجة التي صارفيها البعض يقترح للخروج من هذه الورطة الابتعاد كلية عن العدالة، وتصفية الحساب خارج قواعدها، بالتماس قواعد الغابة والسيبة. لنفكر في الموضوع بهدوء، فالمس بالاحترام الواجب للملك، وانتهاك حرمته جريمة ضد الدستور والقانون، وفي الوقت الذي ترسخت في أفهام الناس وتمثلاتهم أن الملك يعفو أو لا يؤاخذ الناس على الإساءة لشخصه، صار البعض يستمرئ التجرؤ على حرمته والاحترام الواجب لشخصه.
لا يعني هذا الكلام، أن كل ما يطرح من خيارات لمواجهة هذه الظاهرة الشاذة والغريبة عن المجتمع هو أن تضرب العدالة بيد من حديد على المتجرئين، لكن تفعيل مقتضيات العدالة، وتوجيه الاتهام المباشر بهذه الجريمة، خير من الالتفاف على الموضوع بالبحث في السجلات عن تهمة أخرى بديلة وإظهار قدر من الخوف من توجيه التهمة المباشرة، كما أن التوجه إلى العدالة بهذا الوضوح، هو أنفع لدولة الحق والقانون من تسويغ شريعة السيبة، واستباحة لون من العنف تقوم به خلايا التأديب في وجه المجترئين، فاليوم الذي سيفتح فيه هذا الباب، لن نكون بمأمن من مصائر عدد من الدول التي امتلأت شوارعها بالميليشيات والميليشيات المضادة.
ومع أننا نظن ظنا أن شيئا، غير صحيح في البلاد، حرك هذه الظواهر، وجعل التعبير عن المظلومية يتجاوز العبارة اللائقة والنقد الإشاري، فإننا نؤكد بأن ثمة فراغا كبيرا، ليس فقط، في التأطير السياسي الذي تجلد الأحزاب بسببه، بل حتى في دور المدرسة والإعلام، فالأجيال الجديدة، التي تتلقى معارفها وأشكال تعبيرها من الفضاء الأزرق، لا تعرف شيئا عن الدستور والقانون، ولا عن الإطار العام لممارسة الحريات، ولا الضوابط القانونية المنظمة، والجزء الكبير من هذه الأجيال مبعد عن سياسة النخب، غارق في سياسة الرفض، ولا يعرف سبيلا لممارسة النقد بالتقاليد السياسية التي ترسخت في مغرب الأمس واليوم.