سليمان الريسوني يكتب: خاشقجي.. ثالث الحرمات

25 ديسمبر 2019 - 18:00

في أكتوبر 2018، توقعت ما حدث الآن. كتبت في هذا الركن، تحت عنوان «إعدام قتلة خاشقجي مشكل وليسحلا»، أقول: «النظام السعودي في قلب ورطة تكبر وتتناسل. وكلما أمعن في مسح دم الشهيد جمال خاشقجي منعلى قميص ولي العهد، اتسعت البقعة أكثر. العالم الحر مقتنع بأن المعتقلين الثمانية عشر، الذين يساقون إلىالسياف لقطع رؤوسهم، لم يكونوا سوى أعوان تنفيذ للخطة البليدة والجريمة الشنعاء. ترامب نفسه، وهو الحليفالأول للنظام السعودي، خرج في آخر تصريح له يقول إن التستر السعودي على هذه الجريمة هو أسوأ تستر علىالإطلاق، وإنه مقتنع بأن الملك سلمان لم يكن على علم مسبق بالعملية، لكن تورط ولي العهد السعودي في العمليةمحتمل، لأنه هو من يدير فعليا شؤون المملكة».

الآن، لا أحد، بما في ذلك من ابتلعوا ألسنتهم، مقتنع بأن الأحكام الصادرة عن القضاء السعودي عادلة. حتى الذينأخرجوا للتهليل لها، كان صمتهم سيكون أفيد للجناة الحقيقيين، الذين لو كانوا أذكى قليلا مما هم عليه، لاشترواصمت أفراد عائلة الصحافي المغدور بدل كلامهم؛ فمن سيصدق نجل خاشقجي وهو يقول: «القضاء أنصفنا نحنأبناء المرحوم، بإذن لله، جمال خاشقجي. ونؤكد ثقتنا في القضاء السعودي بكافة مستوياته، وقيامه بإنصافناوتحقيق العدالة»، في الوقت الذي نسمع فيه مقررة الأمم المتحدة الخاصة بحالات الإعدام خارج القانون، أنييسكالامار، تقول: «القتلة المأجورون حُكم عليهم بالإعدام، فيما العقول المدبرة تمشي بحرية، وبالكاد تأثرت بالتحقيقوالمحاكمة. هذا نقيض العدل. هذه سخرية». ونسمع آدم شيف، رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب الأمريكي،يقول: «الأحكام استمرار لمساعي المملكة للنأي بالقيادات السعوديةضمنها ولي العهدعن الاغتيال الوحشيللصحافي خاشقجي». ونسمع وزير الخارجية البريطاني، دومينيك راب، يقول إن الرياض ملزمة بضمان «محاسبةجميع المسؤولين عن تلك الجريمة».

إن صوت نجل خاشقجي وهو ينوِّه بالأحكام الصادرة في حق قتلة والده، يظهر الترهيبُ والترغيبُ صارخين فيه؛خصوصا بعدما كان دبلوماسيون غربيون، حضروا جلسات المحاكمة، قد أكدوا أن بعض المتهمين اعترفوا، أمامالمحكمة، بمسؤولية أحمد العسيري، نائب رئيس الاستخبارات، وسعود القحطاني، مستشار ولي العهد، عن الجريمةالتي كلفوا هم بتنفيذها. فكيف يُبرآن إلى جانب القنصل محمد العتيبي، بحجة أنه كان، وقت تنفيذ الجريمة، فيإجازة رسمية، في الوقت الذي أثبتت التسجيلات الصوتية، التي سلمتها تركيا إلى المسؤولين الدوليين، وجود العتيبيلحظة تنفيذ الجريمة، وهو ما أكده مواطنون أتراك يشتغلون في القنصلية السعودية بإسطنبول، إلى جانب ما قالهآخرون عن أن جثمان خاشقجي نقل إلى إقامة القنصل، حيث جرى التخلص منه بإحراقه في الفرن؟

إن اغتيال جمال خاشقجي، وما ترتب عليه من تواطؤات وشراء صمت الأقارب قبل الأجانب، سواء بعد الجريمة، أوعقب صدور الحكم الذي برأ، الآن، المتهمين الرئيسيين، يبقى درسا مهما للقوى التحررية والديمقراطية في بلداننا،للتأكد من أن الإمبرياليات الشرقية أسوأ بكثير من نظيرتها الغربية، الليبرالية، التي تبقى، رغم جشعها، مطوقة بإعلامقوي ومستقل عن الدولة، وبمنظمات حقوقية هي ضمائر إنسانية حية. ولننظر كيف كان الإعلام الأمريكيوالبريطاني والفرنسي والألمانيمِهَنيا ومتنوعا في متابعته للجريمة، بل كيف كان ضاغطا على مواقف مسؤوليهالسياسيين من هذه القضية، وفي المقابل، تعالوا نرى كيف تماهى الإعلام الروسي والصيني مع قادته المتواطئينبالصمت مع الجهات السعودية المتهمة في هذه الجريمة؛ ولسان حالهم يقول: «إذا كان حلفاؤكم الغربيون لايستطيعون حمايتكم من صحافتهم ومنظماتهم الحقوقية، فإن دولنا مستعدة لأن تبيعكم أسلحتها وصمت إعلامها عنجرائمكم». إن مشكلة الشرق، سواء الشرق الأخضر المتخلف، أو الشرق الأحمر المتقدم، هي أنه لا مجال فيهللاختلاف والتنوع، وهذا يسحق الفرد وحقوقه وحريته، ويجعل الغرب الليبرالي، رغم ماضيه الاستعماري وحاضرهالاستغلالي، متنوعا حد التناقض. ولولا هذا لكان دونالد ترامب قد باع دم خاشقجي في صمت.

ختاما، على حكماء السعودية أن يكونوا متيقنين من أن جريمة مقتل الصحافي جمال خاشقجي، بمكانها وزمانهاوبشاعتها، ليست حدثا تاريخيا فسحب، بل هي حدث محدد لمعنى اللحظة التاريخية.. ليس historique، بلhistorial، بتعبير المفكر التونسي أبي يعرب المرزوقي. وبالتالي، فإن كل محاولة لطمسه أو التقليل من آثاره ستكونأكثر أثرا من تحديد المسؤوليات الكاملة عنه وترتيب الجزاءات، ثم فرض الإصلاحات والآليات التي تقطع مع حدوثجرائم الدولة، والتي من شأن إقرارها أن يربط جريمة مقتل جمال خاشقجي بأشخاص بعينهم، مهما علا شأنهم، لاأن يقرنها بالدولة، فيكون بمثابة كشّاف ضوء على باقي جرائم اختطاف وتعذيب وقتل المعارضين التي مافتئتالمنظمات الحقوقية الدولية تتهم المملكة باقترافها. فهل يوجد حكيم شجاع في المملكة يقترب من خادم الحرمينويهمس في أذنه: «مولاي، من سيسعى إلى طمس هذه الجريمة، بعيدا عن قاعدة الجريمة والعقاب، سينطمس قبلها،فردا كان أم دولة. وإن هذه اللحظة، يا مولاي، تحتم عليكم أن تتحولوا من خادم الحرمين إلى خادم حرمات ثلاث؛المسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد النبوي بالمدينة المنورة، ودم المواطن السعودي جمال خاشقجي. دولة الظلمساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، كما قال علي بن أبي طالب يا مولاي».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي