من التقسيمات الأخرى التي يبدع فيها محمد شحرور للقرآن تقسيمه إلى جزأين؛ جزء ثابت وجزء متغير، وهو يسمي هذين الجزأين «موضوعين»، وهي تسمية في غير محلها لأنه يُدخل تحت كل جزء موضوعات متعددة، ثم إنه هناك يسقط في الترادف، كشأنه في الكثير من المفردات كما بينا سابقا وكما سنبين لاحقا، إذ قال: «إذا نظرنا إلى محتويات القرآن، فنرى أنه يتألف من موضوعين رئيسيين وهما: 1- الجزء الثابت» (الإحالة نفسها)، فقد سمى الجزء موضوعا، وهذا معناه أنه جعل الموضوع مرادفا للجزء.
فالجزء الثابت عنده يستنتجه من الآية: «قرآن مجيد في لوح محفوظ»، ويقول: «وهذا الجزء هو القوانين العامة الناظمة للوجود كله ابتداء من خلق الكون»، وهذا الجزء العام تعبر عنه في نظره الآية «لا مبدل لكلماته»، وفي اللوح المحفوظ «يوجد القانون العام الصارم لهذا الوجود ولا تبديل لهذا القانون من أجل أحد، أما التشابه في هذا الجزء فهو منسوب إلى الفلسفة وهي أم العلوم، أي معرفة الإنسان بالقوانين العامة الناظمة للوجود» (ص 74).
أما الجزء المتغير فهو عنده مأخوذ من قوله تعالى: «إنا نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين»، والكتاب المبين يحتوي شقين؛ أحداث وقوانين الطبيعة الجزئية، مثل تصريف الرياح واختلاف الألوان وهبة الذكور والإناث والطوفان «وهي قابلة للتصريف»، والشق الثاني هو «أفعال الإنسان الواعية، وهو ما نسميه القصص»، ويرى أن الدليل على ذلك هو قوله تعالى: «نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين». ثم يدخلنا الدكتور شحرور في دوامة من الكلام السريالي فيقول: «أما أن القصص جزء من القرآن فقد ورد في قوله: ‘‘وإن كنت من قبله لمن الغافلين’’. فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهل القصص والقرآن معا، وكان القصص ليس جزءا من القرآن لجاءت الصيغة بصورة المثنى أي: وإن كنت من قبلهما، وهذه الصيغة «من قبله» تصح في حالة أن القرآن شيء والقصص شيء آخر في حالة واحدة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهل القرآن ولا يجهل القصص، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهل القصص أيضا لقوله في صورة هود بعد قصة نوح: «تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل فاصبر إن العاقبة للمتقين»، من هنا نستنتج النتيجة الوحيدة وهي أن القصص جزء من القرآن، وهناك دليل آخر في قوله تعالى في أول سورة النمل «طس، تلك آيات القرآن وكتاب مبين»، فإذا تصفحنا سورة النمل وجدنا أن فيها قصصا» (ص 76).
ولا أعتقد أن القارئ سيخرج بنتيجة من كل هذا الكلام الذي لا رأس له ولا ذنَب، فأولا هو يفرق بين اللوح المحفوظ والإمام المبين، وهما شيء واحد، ذلك أن كلمة «الإمام» تأتي بمعان مختلفة، فهي قد تعني القائد في الخير مثل قوله: «إني جاعلك للناس إماما» وقوله: «واجعلنا للمتقين إماما»، وتعني كتاب الأعمال: «يوم ندعو كل أناس بإمامهم»، وتعني اللوح المحفوظ: «وكل شيء أحصيناه في إمام مبين»، وتعني الطريق الواضح المستقيم: «وإنهما لبإمام مبين»، وتعني الكتاب أو التوراة: «ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة»، لذلك لا ندري من أين تسرب هذا الخلط إلى الدكتور شحرور الذي ارتضى التقسيم والتجزيء لكي يرضي مزاجه.
ويزعم أن الجزء الثابت، أو ما يسمه اللوح المحفوظ، هو الخاص بالقوانين العامة الناظمة للوجود، وهذا من أغرب التفسيرات وأعجبها التي تخالف لغة القرآن وآراء المفسرين قديما وحديثا، عربا وعجما، فما يشير إلى القوانين ونظام الوجود هو كلمة السنة في القرآن لا اللوح المحفوظ، مثل قوله تعالى: «ولن تجد لسنة الله تبديلا»، أي النظام الكوني أو نظام الوجود، وقوله: «سنة الله التي خلت من قبل»، وغيرهما من الآيات. أما عبارته : «أما التشابه في هذا الجزء فهو منسوب إلى الفلسفة وهي أم العلوم، أي معرفة الإنسان بالقوانين العامة الناظمة للوجود»، فلا ندري ما المقصود فيها بالتشابه، لكن العبارة فيها تناقض صارخ مع سياق كلامه، فهو يقول إن اللوح المحفوظ هو الجزء الخاص بالقوانين العامة للوجود، ثم يقول إن الفلسفة هي «معرفة الإنسان بالقوانين العامة الناظمة للوجود»، وهذا تداخل غير مفهوم يعكس حالة من التخبط. وعلى أي حال، فإن الفلسفة اليوم لم تعد أم العلوم، وليست هي معرفة الإنسان بقوانين الوجود، ولعل الدكتور شحرور، الذي ينتقد التراث والماضي، مازال يعيش في الماضي قبل فك الارتباط بين الفلسفة والعلوم، عندما كان ديكارت يقول إن الفلسفة شجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها العلم الطبيعي وأغصانها المتفرعة عن هذا الجذع هي الميكانيكا والطب والأخلاق. فحتى عصر ديكارت، الذي كان بداية العقل في أوروبا، كانت الفلسفة لاتزال مرتبطة بالفيزياء والطبيعيات، لكن العلوم الحديثة تطورت فيما بعد، وصارت أكثر تجريبية، فانفصلت عن الفلسفة التي لم يعد بيدها سوى شيء واحد تبحث فيه، هو الميتافيزيقا، أي ما وراء الوجود، وليس «القوانين العامة الناظمة للوجود»، كما يتوهم شحرور، لأن مهمة البحث في القوانين العامة انتقلت إلى العلوم التجريبية.