أطلق الملك محمد السادس، خلال الأشهر الأخيرة، مبادرات جديدة ترمي إلى استعادة الثقة في المؤسسات واستئناف الإصلاحات. المبادرة الأولى تتمثل في النموذج التنموي الجديد الذي حدد أهدافه ومراميه خطاب العرش الماضي، والذي تزامن مع مرور 20 سنة على توليه الحكم، فيما تتمثل المبادرة الثانية، التي أعلن عنها في خطاب افتتاح السنة التشريعية الجارية، في “البرنامج المندمج لدعم وتمويل المقاولات”، وبين المبادرتين، وجه رئيس النيابة العامة، محمد عبدالنباوي، مذكرة إلى وكلاء العامين الملك ووكلاء الملك في محاكم المملكة تحثهم على التصدي للفساد المالي، كونه “آفة تهدد مختلف مخططات التنمية، وتقوض سيادة القانون، وتضعف ثقة المواطنين والمستثمرين في المنظومة القانونية والمؤسساتية الوطنية”. ثلاث مبادرات غير مسبوقة، فهل تكفي لاستعادة الثقة في المؤسسات واستئناف الإصلاحات؟
دينامية النموذج التنموي
بخصوص مبادرة النموذج التنموي، فقد جعل الملك الهدف الأول لها، في خطاب العرش الأخير، “توطيد الثقة والمكتسبات: لكونها أساس النجاح، وشرط تحقيق الطموح؛ ثقة المواطنين فيما بينهم، وفي المؤسسات الوطنية التي تجمعهم، والإيمان في مستقبل أفضل”. وخلال تعيين أعضاء اللجنة في دجنبر الماضي، أعاد بلاغ للديوان الملكي التذكير بأن مهمة هذه اللجنة ستنكب “منذ الآن، على بحث ودراسة الوضع الراهن، بصراحة وجرأة وموضوعية، بالنظر إلى المنجزات التي حققتها المملكة، والإصلاحات التي تم اعتمادها، وكذا انتظارات المواطنين، والسياق الدولي الحالي وتطوراته المستقبلية. وسترفع إلى النظر السامي لجلالة الملك، بحلول الصيف المقبل، التعديلات الكبرى المأمولة والمبادرات الملموسة الكفيلة بتحيين وتجديد النموذج التنموي الوطني. وستعمل اللجنة طيلة فترة عملها وفق مقاربة تشاركية ومندمجة على ضمان أوسع انخراط ممكن”.
هذا، وانطلقت اللجنة منذ تعيينها في تنظيم لقاءات، مع أحزاب سياسية ومركزيات نقابية، وهيئات وغرف مهنية ومسؤولين في الجماعات الترابية، وبمسؤولي مؤسسات دستورية مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومجلس المنافسة والهيئة المركزية لمحاربة الرشوة وغيرها، كما التقت بالطلبة الجامعيين في جامعة بنجرير، وقامت بزيارات ميدانية إلى العالم القروي، حيث التقت بسكان ثلاثة دواوير نواحي تارودانت. الخطوات التي قامت بها اللجنة، لحد الآن، نالت استحسان المتتبعين، لكن النقاش حول القضايا التي جعلتها محور اهتمامها يبدو حضورها ناقصا، إن على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، أو في الإعلام العمومي والخاص.
لكن في المقابل أثارت اللجنة جدلا بسبب تشكيلتها، خصوصا من لدن رئيس الحكومة السابق، عبدالإله بنكيران، الذي احتج على تهميش التيار الإسلامي من عضويتها، لصالح تيارات إيديولوجية أخرى. وفي نظر عبدالرحيم العلام، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاضي عياض بمراكش، فإن تركيبة اللجنة يغيب عنها الجانبان الحقوقي والسياسي. واعتبر العلام أن تركيبة اللجنة تشير إلى أنها “ستركز على النموذج التنموي في جانبه الاقتصادي، الذي يحضر بأسماء اقتصادية معروفة، لكن بدون العنصرين الحقوقي والسياسي”. وأضاف العلام “يبدو أن هذين الجانبين غير مفكر فيهما، وكأن التنمية مرتبطة فقط، بالجانب الاقتصادي”، مبرزا “غياب ممثلين عن الأحزاب السياسية والشأن الحزبي وعلم السياسة”. ولاحظ العلام أن اللجنة أغفلت عضوية أساتذة القانون الدستوري، وفي هذا الصدد تساءل: “ألن يستدعي هذا النموذج التنموي المرتقب إجراء تعديلات دستورية في مواضيع معينة، خصوصا وأنه يجب أخذ هذا الجانب بعين الاعتبار، لأن التنمية لا يمكن أن تتحقق بدون ديمقراطية”.
تمويل مقاولات للشباب
المبادرة الثانية التي أطلقها الملك يوم 27 يناير المنصرم تتعلق بـ “البرنامج المندمج لدعم وتمويل المقاولات”، الذي يستهدف بشكل رئيس المقاولات الصغرى والمتوسطة والشباب الحاملين للمشاريع، ويركز على توفير الولوج إلى التمويل من لدن القطاع البنكي، من خلال إحداث “صندوق دعم تمويل المبادرة المقاولاتية” لتمويل تلك المشاريع، بغلاف مالي يقدر بـ8 ملايير درهم، وبمساهمة صندوق الحسن الثاني والحكومة والأبناك.
الإجراءات التي أسفر عنها البرنامج ترمي إلى تخفيض معدل سعر الفائدة إلى أقل من 2 في المائة، استجابة للتوجيه الملكي في اجتماع 27 يناير بحضور وزير الاقتصاد والمالية ووالي بنك المغرب ورئيس جمعية الأبناك، بل جرى تحديد سقف الفائدة في العالم القروي في حدود 1,75 في المائة، بهدف المساعدة في بروز أسرع لطبقة متوسطة قروية.
وفي فبراير الجاري، وقعت البنوك المغربية وصندوق الضمان المركزي الاتفاقيات الخاصة بتنزيل مقتضيات البرنامج المندمج لدعم وتمويل المقاولات، الذي سينفذ على مدى ثلاث سنوات. وقد ضمت الاتفاقيات المُبرمة ثلاثة منتجات؛ المنتج الأول، أُطلق عليه “ضمان الانطلاقة”، وهو منتج ضمان يستهدف المقاولين الذاتيين والشباب حاملي الشهادات والمقاولات الصغيرة جدا. ويمكن أن تستفيد من هذا الضمان المقاولات التي لا يتجاوز عمرها 5 سنوات، وتحقق أقل من 10 ملايين درهم كرقم معاملات. وبالنسبة إلى المقاولات المرتقب إحداثها يتوجب أن تكون توقعاتها في حدود رقم المعاملات سالف الذكر. ويسمح هذا الضمان بقرض استثمار في حدود 1.2 مليون درهم، كما يُغطي 80 في المائة من القروض.
أما المنتج الثاني، فأطلق عليه “ضمان انطلاق المستثمر القروي”، ويستهدف الضيعات الفلاحية الصغيرة، والمقاولات الصغيرة جدا، وحاملي المشاريع والمقاولين الذاتيين في المجال القروي، بالشروط نفسها في الضمان الأول. بينما أُطلق على المنتج الثالث “ستارت المقاولات الصغيرة جدا”، وهو منتج تمويل على شكل تسبيق يجري استرداده بعد فترة خمس سنوات بدون فائدة، وبدون ضمانات، موجه للمقاولين الذاتيين حاملي المشاريع والمقاولات الصغيرة جدا. كما يمكن أن تستفيد من هذا المنتج، أيضا، المقاولات الشابة المبتكرة والاستغلاليات الفلاحية الصغيرة، والمشاريع المبنية وفقا لعملية تمليك الأراضي الجماعية والمقاولات الصغيرة المصدرة نحو الدول الإفريقية. ويهم هذا المنتج المقاولات الصغيرة في مرحلة البداية التي تعتبر مرحلة صعبة لها، ويضم قرض استثمار بـ300 ألف درهم، كحد أقصى مضمون من طرف منتج “انطلاقة”. ويسعى هذا البرنامج إلى استقطاب وبلورة جيل جديد من منتجات الضمان والتمويل لفائدة المقاولات الصغيرة جدا، ولفائدة الشباب حاملي المشاريع، مع إعطاء الأولوية للعالم القروي، والقطاع غير المنظم، والمقاولات المصدرة.
إدريس الفينة، الخبير المالي والاقتصادي، اعتبر أن المبادرة الملكية المذكورة “مبادرة استراتيجية تترجم الرغبة لتحقيق شروط التنمية الشاملة في المغرب عبر المقاولات وتكسير الدائرة المغلقة التي يعرفها إشكال تمويل الاقتصاد”. وأشار الفينة “أن المبادرات المقاولاتية في المغرب كثيرة، لكنها تصطدم بمناخ أعمال مستعص، من حيث عدد القيود الموضوعة قبل بدء الإنتاج. كما تصطدم بنظام تمويل محافظ، وخصوصا مكونه البنكي. لأن هذا الأخير يضع شروطا متعددة للحصول على قروض. وهو نظام لا يبحث في تقاسم المجازفة، كما هو عليه الأمر دوليا لتمكين المقاولات من التقدم والتطور”. الأمر الذي يضيع، يضيف الفينة، على الاقتصاد فرصا مهمة للنمو.
لذلك، تبدو مبادرة الأبناك بالانخراط في تمويل المقاولات الصغرى والمتوسطة وبالوسط القروي، مبادرة استراتيجية، لكن الفينة سجل أن تنفيذها ليس بالسهل، لأن عددا من المبادرات المماثلة التي جرى إطلاقها، خلال السنوات السابقة، اصطدمت بواقع بنكي لا يقبل المجازفة. لهذا، فإن تتبع وتقييم هذه المبادرة بشكل مسترسل أمر أساسي لضمان نجاحها”.
محاربة الفساد أولوية
المبادرة الثالثة تتعلق بمحاسبة الفساد، والتي يمكن إدراجها، أيضا، ضمن المبادرات الجديدة، والمتمثلة في مذكرة رئيس النيابة العامة، محمد عبدالنباوي، بمناسبة اليوم الوطني لمحاربة الرشوة الذي يصادف 6 يناير من كل سنة. المذكرة أكدت أن “الفساد يعتبر آفة تهدد مختلف مخططات التنمية، وتُقوّض سيادة القانون، وتُضعف ثقة المواطنين والمستثمرين في المنظومة القانونية والمؤسساتية الوطنية”. واعتبرت أن الفساد لا يجب أن يُختزل في “جريمة الرشوة وحدها”، بل وجب “التصدي لجرائم الرشوة، واختلاس وتبديد المال العام، والغدر، واستغلال النفوذ”. بالإضافة إلى “مختلف السلوكيات الإجرامية الأخرى التي تعاكس التنافسية الاقتصادية وتضر بالاستثمار”. ودعت الوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك للتصدي لكل ذلك، وإجراء التحريات حول كل المعلومات التي تصل إلى علمهم حول أفعال الفساد، والتنسيق بين المتدخلين، وتفعيل المقتضيات القانونية التي تسمح بجمع الأدلة وكشف الجناة.
وإذا كانت مبادرة النموذج التنموي الجديد لن تسفر عن نتائجها إلا بعد دخول أعمالها النهائية حيز التنفيذ، إلا أن المبادرة المتعلقة بتمويل مشاريع الشباب، والمبادرة المتعلقة بمحاربة الفساد، من شأنهما أن تسفرا عن نتائج أسرع. المثال الأبرز على ذلك، تفعيل مذكرة رئاسة النيابة العامة، حيث يجري ربط الاعتقالات التي استهدفت برلمانيا ورئيس جماعة قروية نواحي مراكش متلبسا بجريمة الارتشاء، وكذا الإطاحة بشبكة يتزعمها رجل سلطة بالدار البيضاء بتهم الارتشاء واستغلال النفوذ والإثراء غير المشروع، أو إدانة مسؤول بجهة ولاية مراكش بالسجن النافذ بتهم الرشوة والابتزاز. لكن الملاحظ أن قضايا أخرى يشوبها الغموض والتردد، ولايزال الجسم القضائي مترددا في اقتحامها لحد الآن، خصوصا عندما تتعلق بسياسيين وأمنيين وقضاة، الذين توجه لهم الأصابع بشكل متواتر.
في هذا السياق، يرى محمد براو، الخبير في سياسات مكافحة الفساد، أن المبادرات الملكية “تبدو متكاملة، لأنها تُزاوج بين الحكامة التشاورية والنزاهة العملية، كما أنها تأتي في سياق منطقي متواتر، مع الإعلان عن فشل النموذج التنموي السابق، وضرورة مراجعته، وفي الوقت عينه رسالة ذات رمزية معنوية وعملية تتعلق بالتفاعل الطردي بين التنمية والنزاهة”.
واعتبر الخبير براو أن “دون محاربة الفساد لا أمل في أي تقدم حقيقي وتوزيع عادل لثمار التنمية. لأن البيئة الحاضنة للفساد هي بيئة طاردة للتنمية المتوازنة والمستدامة”، وأضاف قائلا: “ما هو معلوم، أن أجندة التنمية المستدامة على المستوى العالمي تقتضي أمرين أوليين هما: الحد من الفقر والأمية، ومحاربة الفساد” . وخلص براو أن “المبادرات الملكية تسير وفق منطق متماسك ومتواتر الخطوات .لكن بالضرورة والتعريف لا يمكن أن تكون مبادرات كافية لأنها تستدعي متابعة ونفسًا طويلا، وتقييما دوريا وانخراطا جماعيا” .
ومضى براو قائلا: “ما أثار اهتمامي شخصيًا هو تفعيل دور القضاء في مكافحة الفساد وبوثيقة سريعة وغير مترددة. ذلك ما يفضي إلى الاستنتاج التالي وهو أن الإرادة السياسية متبوعة بتفعيل القضاء المستقل والقوي والفعال، تعطي نتيجة مباشرة باستعادة الثقة، دون الارتهان إلى متاهة أرانب المؤسسات والهيئات، وتبادل اللوم وإلقاء المسؤوليات”.
سؤال الإرادة مرة أخرى
أشار براو إلى ضرورة تلازم أمرين: الإرادة السياسية وتفعيل دور القضاء المستقل والفعال والنزيه. وهما مرتكزان يعودان في النهاية إلى سؤال الإرادة السياسية. عبدالمنعم لزعر، باحث في العلوم السياسية، يقدم قراءة في السياق العام لهذه المبادرات، فمن وجهة نظره، كشفت “العمليات الانتخابية، منذ سنة 2011، أن مشاركة المواطن وتفاعله مع السياسات العمومية، كان يراهن على حدوث تقدم على مستوى ثلاث أولويات: محاربة الفساد، التنمية، وتشغيل الشباب، لكن بعد الفشل في إحراز تقدم على مستوى تلك الأولويات، أصبحت المؤشرات المرتبطة بهذه المداخل أكثر خطورة”.
ويضيف لزعر أن “المبادرات المعلن عنها تحاول أن تقلص من جهة الهوة بين الدولة والمجتمع، وتحاول من جهة أخرى، ضمان تناسق الرهانات بين الدولة والمجتمع، وتحاول من جهة أخيرة، تقديم إجابة عن انتظارات المواطنين، كما تحاول اعتماد مقاربات واستراتيجيات استباقية، لأن تعمق مؤشرات عدم الثقة ستكون تكلفته باهظة على مستوى المخاطر المتوقعة”. واعتبر لزعر أن “محاربة الفساد والتنمية والتشغيل أصبحت قضايا مركزية بالنسبة للدولة، وأصبحت رهاناتها من رهانات الدولة، بعدما فشل الفاعلون ما دون الدولة في تحقيق تقدم ملموس على هذا المستوى”، ولا يجب أن “ننسى السياقات الإقليمية وما تولده من مخاطر على المستوى الاستقرار السياسي والاجتماعي، والتي تدفع جميعها في اتجاه الاستثمار في عوامل عدم الاستقرار”.
أما محمد مصباح، مدير المعهد المغربي لتحليل السياسات، فقد نوه بالمبادرات الملكية المشار إليها، على أساسا أنها تعكس “إحساسا لدى صُنّاع القرار أن الوقت بدأ ينفذ، والمدخل المناسب لاستئناف الإصلاحات أولويتين: تشغيل الشباب، لأن الاحتجاجات المتصاعدة مرتبطة أساسا بوجود إحساس لدى هذه الفئة بالإقصاء الاجتماعي، والأولوية الثانية، تتعلق بمحاربة الفساد، لأنه يعتبر “إحدى المعضلات التي تعطل التنمية”، ويعكس ذلك “إحساس صانع القرار بأن التقدم في الإصلاحات وتحقيق التنمية رهين بمحاربة الفساد”، لكن مصباح يرى أن “هذا المسعى يحتاج إلى ترسانة مؤسساتية، وإلى منظومة قرارات، وليس مذكرة يتيمة لرئيس النيابة العامة فقط”، مؤكدا، في السياق، أن هناك “إشارات سلبية” من قبيل “تردد البرلمان في تجريم الإثراء غير المشروع، وتعثر مسار الهيئة المركزية لمحاربة الرشوة، ما أدى إلى مزيد من تجميد تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد”، وكخلاصة، في نظر مصباح، فإن “وجود أولويات لا يكفي، في غياب استراتيجيات ومخططات دقيقة وقابلة للتنفيذ”.