يونس مسكين يكتب: قانون أصحاب السبت

04 مايو 2020 - 18:00

بعد أسبوع كامل من السجال القانوني والحقوقي العاصف حول مشروع القانون سيئ الذكر، 22-20، لا بد من مواصلة هذا النقاش من خلال طرح بعض الأسئلة التي تتجاوز سياق ميلاد هذا المشروع اللقيط، إلى تلمّس جذوره وخلفياته. والاستطلاع السريع للتجارب الدولية في هذا المجال، يسمح بالوقوف على أربعة أنماط من التعاطي الرسمي مع ضبط شبكات التواصل الاجتماعي.

النمط الأول تعتمده بعض الأنظمة الشمولية، ويتمثل في ممارسة المنع على هذه الشبكات الاجتماعية. أما النمط الثاني، فتقوم به بعض الأنظمة الدكتاتورية، ويتمثل في الاستحواذ والتوجيه، وهو ما أنتج ظواهر مثل الذباب الإلكتروني. والنموذج الثالث، فهو الذي تمثله بعض الدول الديمقراطية، خاصة منها الأوربية، التي راحت تفاوض وتصارع عمالقة الأنترنت لمنحها بعضا من مفاتيح هذه الشبكات، فيما تمثل الولايات المتحدة الأمريكية النمط الرابع، حيث تتمتع بخصوصية وجود مقرات الفيسبوك وتويتر واليوتوب… فوق ترابها، وبالتالي، خضوعها لقوانينها.

تعالوا نلقي نظرة على القصة الأوربية في هذا المجال، لأنها تعتبر، لأسباب كثيرة، الأقرب إلينا. لقد بدأت هذه الحكاية تحديدا بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، والتي انتخب فيها دونالد ترامب، وأعقبها سجال حول التأثير الروسي في هذه الانتخابات لم يغلق إلى اليوم.

اعتبر الأوربيون تلك الواقعة جرس إنذار دفعهم إلى تحريك آلياتهم الدبلوماسية والقانونية لحماية قراراتهم السيادية، خاصة منها الانتخابات، من التأثير الأجنبي عبر الشبكات الاجتماعية. وأول من تحرّك في هذا الاتجاه كان هو ألمانيا التي أصدرت في نهاية 2017 قانونا لضبط الشبكات الاجتماعية، تزامن مع انتخاباتها العامة. وبرّرت ألمانيا هذا القانون بضرورة الحد من خطاب الكراهية والتحريض على العنف عبر الشبكات الاجتماعية، فيما كانت الخلفية الحقيقية سياسية، وهي الخوف من استثمار اليمين المتطرف هذه الوسائط لتحقيق المكاسب الانتخابية، مدعوما في ذلك من قوى أجنبية.

حاولت قبلتنا التشريعية والسياسية الأولى، أي فرنسا، السير على خطى ألمانيا، وجعل الرئيس إيمانويل ماكرون من إصدار قانون شبيه بالقانون الألماني واحدا من مشاريعه الأولى بعد انتخابه، لكنه ظل يتعثر في خطواته منذ ذلك الحين، رغم لقاءاته بمالك منصة «فيسبوك»، مارك زوكربرغ. وجل الدول التي رافقت فرنسا في هذا المضمار، مثل إيطاليا وبلجيكا، اصطدمت بعقبة الحق المحصّن للأوربيين في التعبير الحر.

هكذا، جرى إقبار مشروع قانون «غامبارو»، وهو اسم الوزيرة الإيطالية التي اقترحت مشروعا مماثلا للقانون الألماني، حيث اعتبرت غالبية الطبقة السياسية والجسم الصحافي أنه يهدد حرية التعبير. وبعد تفاوض طويل وعسير بين الأوربيين، بقيادة فرنسا والعملاق الأزرق، فيسبوك، أقدم هذا الأخير على إحداث خدمات جديدة للتحقق من صحة التدوينات والتأكد من خلوها من خطاب الكراهية والتمييز.

حلول لم تقنع الأوربيين، حيث عادت فرنسا لتبادر إلى إعداد مشروع قانون «أفيا»، وهو اسم صاحبته ليتيتيا أفيا، لضبط وتقنين الشبكات الاجتماعية. اجتاز هذا المشروع بنجاح مرحلة الجمعية الوطنية، لكنه سرعان ما تعرض للتجميد في مجلس الشيوخ بسبب اعتراضات قوية على مضامينه التي ترغم المنصات الاجتماعية على حذف المضامين المسيئة خلال 24 ساعة تحت طائلة العقوبات المالية.

لنعد، إذن، إلى قصتنا المغربية. ولنلاحظ أولا منطق ما دبّر بليل الذي تعاملت به السلطات المغربية مع هذا الموضوع. مشروع يمسّ أكبر مجالات التداول والنقاش والتعبير العمومي في العصر الحديث، تعد «الحكومة» مشروعه دون أدنى استشارة سواء للفاعلين المدنيين، الإعلاميين والحقوقيين، أو للمؤسسات الرسمية من مجلس وطني للصحافة ومجلس وطني لحقوق الإنسان…

أما من حيث المضمون، وإذا تركنا جانبا الفقرات الشبيهة بـ«خرايف الجدات» التي دبّجها معدو المشروع في علاقة بـ«مزودي الخدمات»، حيث اعتقدوا أنهم سينالون بجرة قلم ما عجزت القوى الأوربية عن انتزاعه من العمالقة الأمريكيين طيلة سنوات؛ لا يمكن عين القارئ إلا أن تتجه رأسا نحو تلك الفصول الحمقاء التي أقرّت عقوبات سجنية خيالية ضد من ينتقدون فاعلين اقتصاديين أو منتجات أو يدعون إلى مقاطعتها.

لقد حاولت المشاريع الأوربية ضبط وتقييد الشبكات الاجتماعية بخلفيات سياسية، أي لحماية السيادة الوطنية، لكن في الحالة المغربية، لم تكن السيادة الوطنية ولا الصالح العام هو خلفية طرح المشروع، والدليل هو انعدام أدنى تواصل أو نقاش حوله. وحتى نقتصر على الظاهر والمؤكد من معطيات رسمية مرتبطة بهذا المشروع، نسجل أن الوزير الذي وُقع المشروع باسمه وعرضه بشكل طارئ أمام المجلس الحكومي، وخرج منه بمصادقة «على بياض»، هو نفسه الذي وضع العصا في عجلة مشروع القانون الجنائي الذي يجرم الإثراء غير المشروع باحتشام واضح وعقوبات «حنينة» تكاد لا تمس ناهبي المال العام بسوء. أي أنه وجد ما يكفي من وقت لإعداد المشروع من أساسه، حسب ما صرح به، ولم يجد الوقت، في المقابل، لدراسة ومناقشة مشروع تجريم الإثراء غير المشروع.

صاحب «قانون بنعبد القادر» هو نفسه الذي خرج «عريسا» من اجتماع استثنائي للقيادتين السياسيتين لكل من حزبي الوردة والحمامة أسبوعا واحدا قبل نزول هذا المشروع نزول البلاء فوق الرؤوس، حاملا تزكية رسمية بدعمه في معركة تعديل القانون الجنائي. وإذا وضعنا هذا الحدث في سياقه، القريب والبعيد، واستحضرنا كيف دخل حزب الوردة إلى الحكومة محميا داخل إبط الأخ الأكبر صاحب الحمامة الزرقاء، وأضفنا إلى ذلك ما طرح في الساحة أخيرا من مقترحات لتأجيل الانتخابات وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وصدور البيانات الرسمية والتسريبات المخدومة التي تؤكد الإصرار على تمرير هذا المشروع قبل الانتخابات التشريعية المقبلة، فإننا نصبح أمام شبهات، تكاد ترقى إلى اليقين، بأن هذا المشروع هو الثمن الذي ينبغي لما تبقى من الاتحاد الاشتراكي دفعه للحفاظ على وضعية الكفالة التي دخلها قبل أربع سنوات، والعبور بها مرحلة الانتخابات المقبلة، وذلك من خلال حمايته ظهر الكفيل، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار عزيز أخنوش، من سلاح المقاطعة الذي يمكن أن يشهره ضده خصومه السياسيون أو الرأي العام. أما رئيس الحكومة، المسؤول السياسي الأول عن هذا المشروع، فيتصرّف بمنطق كم حاجة قضيناها بتركها، كما لو أن منع انهيار التحالف الحكومي المرقع أهم من الحقوق والحريات الأساسية للمغاربة.

الحقيقة أنني وخلال متابعتي رد الفعل الجماعي للمغاربة الذين ثاروا ضد هذا المشروع عبر المنصات الاجتماعية، لم أجد تعبيرا أبلغ مما ورد في تدوينة لبرلماني سابق، قال إن مشروع القانون 22-20 ذكّره بحكاية كانت ترويها والدته الراحلة، تقول إنه في إحدى قرى الأطلس الكبير، اشترك مسلم ويهودي في زراعة أرض واقتسام المحصول. وفي أحد المواسم حصدا طيلة الأسبوع وانتهيا عشية الجمعة، واتفقا على استئناف علمية الدراس والقسمة يوم الأحد، لأن اليهودي لا يعمل يوم السبت. في صباح الأحد جاء اليهودي فوجد شريكه قد قام بعملية الدراس يوم السبت، وقال له هذا نصيبك وهذا نصيبي، فالتفت إليه اليهودي وقال: «لو كانت النية ما تدرسش نهار السبت».

الحكاية جاءت على لسان البرلماني السابق إشارة منه إلى حالة الطوارئ التي التف فيها المغاربة حول حكومتهم بكل «نية» لمواجهة وباء كورونا، ليأتيهم مشروع قانون التكميم الجماعي طعنة في الظهر. والمثال يذكر في حقيقة الأمر بقصة «أصحاب السبت» التي رواها القرآن الكريم، والتي تهم قرية كانت تعيش على صيد الأسماك في زمن نبي الله داود. وبما أن يوم السبت مخصص للعبادة ويمنع فيه الصيد، فإن الأسماك كانت تحل بشاطئ القرية كل سبت بكثافة، لما اعتادته من «أمان»، عكس باقي أيام الأسبوع. وتحت إغراء هذا المشهد، انزلقت فئة من سكان القرية تدريجيا لتقع في المحظور، وتشرع في الغدر بالأسماك في يوم «الراحة البيولوجية»، وهو ما جرّ اللعنة على القرية بكاملها.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي