يعد محمد سعيد قروق أحد الباحثين المغاربة القلائل المتخصصين في علم المناخ، حيث اشتهر بأبحاثه العميقة ومتابعته الدقيقة للظواهر المناخية العالمية، ومساهمته العلمية التي تسلط الضوء على التحولات المناخية وآثارها في الطبيعة والإنسان. من هذا المنطلق، حاورته “أخبار اليوم” حول مدى تأثير التوقف الناتج عن انتشار فيروس كورونا في المناخ، وحول صدقية التقارير التي تفيد بتحسن جودة المناخ وبتراجع تأثير الانبعاثات الغازية في الوضع المناخي منذ نحو شهرين. فيما يلي إجاباته عن الأسئلة المرتبطة بهذه القضايا.
• هناك مجموعة من التقارير التي نشرت في الآونة الأخيرة، تفيد أن جائحة كورونا انعكست إيجابا على الوضع المناخي العالمي. ما مدى صحة هذا الإقرار؟
*** اطلعت بالفعل على مجموعة من التقارير التي تتكلم عن تعافي الوضع البيئي العالمي، والتي تعطينا بعض النماذج لمجالات التنوع البيولوجي مثلا، في البر والبحر والهواء. كما تعطينا بعض النماذج لتطور يظهر أنه سريع، سيكون له أثر. وهذا صحيح. إلا أنه لا يمكن أن نعتمد على هذا الأثر البتة، لأن هذه الفترة قصيرة وضيقة جدا، بينما المناخ في حاجة إلى فترة أطول. فإذا كان المناخ من مكونات الكرة الأرضية الأكثر تقلبا، فهو، كذلك، الأكثر استقرارا من الناحية الزمنية. ومن هنا، فهو في حاجة إلى زمن طويل، ليتحقق هذا الاستقرار.
نلاحظ إذًا أن مجموعة من الغازات- لا سيما غازات السقيفة التي تهمنا هنا- تعيش داخل الغلاف الجوي لفترة طويلة. وبالتالي، فهذه الفترة ليست كافية لتندثر. إنما هناك غازات قد انقطعت وتوقفت. هكذا، هناك نوع من التحول الاستثنائي في تركيبة الغلاف الجوي، وله أثر مباشر، بطبيعة الحال، في وظائف الغلاف الجوي، لا سيما في تعامله مع الإشعاع الشمسي. وهذا هو أهم شيء، لأنه يمثل البداية لتحول أكبر يشمل باقي المكونات الأخرى، مثل الحرارة والرياح والرطوبة (التي تكتسي أهمية بالغة لأن الغازات الموجودة في الغلاف الجوي هي التي تتفاعل مع الرطوبة، لتوزيع الأمطار)…
• في هذا السياق، هل يمكن القول إن الأمطار التي شهدها المغرب كانت نتاج هذا التحول المناخي؟
*** يصعب كثيرا أن نقوم بهذا الربط، لأنني أعتبر هذه السنة، بطريقة ما، استثنائية ارتباطا بالوضع الجوي الذي استقر في العروض المغربية والعروض المماثلة، حيث أن استقرار مناخ مغاير عن الذي كنا نعيشه، والذي أسميه بالمناخ الجديد، يتميز بدورة هوائية طولية. معنى ذلك أنها تشهد نوعا من الالتواء والتدافع في اتجاه القطب وفي اتجاه الاستواء، يعني أنه بدل أن تأتينا الكتل الهوائية مباشرة من الغرب إلى الشرق، وبطريقة خطية أو تشبه الخطية، أصبحت تأتينا دائما من الغرب إلى الشرق، ولكن بطريقة ملتوية، تصعد عبر موجات نحو القطب وتعود نحو الجنوب، ثم تعود إلى القطب، إلخ.
وقد لاحظنا أن النظام الجوي السائد خلال الفصل المطير، ابتداء من نونبر إلى نهاية مارس، صار بشكل غير مألوف نظاما جويا “نطاقيا”- هكذا نسميه في اللغة المناخية-، بمعنى أنه يأتي مباشرة من الغرب إلى الشرق بطريقة خطية. وهذا يذكرنا بالنظام الذي كان سائدا فيما قبل. وهذا النظام هو، بالمناسبة، المسؤول عن الجفاف الذي عاشه المغرب في الثمانينيات إلى حدود الألفية.
هذا لا يعني أننا عدنا إلى ذلك النظام. لا، ولكن يجب أن نقوم بدراسته- وهذا من بين البرامج التي سأهتم بها. لكن، عندما وصلنا إلى شهر أبريل، الذي يمثل في الحالات العادية الفترة الانتقالية بين فصلي الشتاء والصيف، تغيرت الدورة الهوائية، أي انتقلت من فترة كان فيها التباين الطاقي بين القطب الشمالي والاستواء كبيرا، ويبدأ هذا التباين يتقلص. وحينما يتقلص، تصبح الدورة الهوائية بطيئة. وبالتالي، فإنها تلتوي. وهذا الالتواء هو الذي أعطانا هذه الأمطار الأخيرة.
إذًا، يجب أن نعتبر هذه الوضعية عادية في تطورها خلال هذه الفترة. إلا أنها صادفت فترة الحجر الصحي على الصعيد الكوني. ومن الأكيد أن يكون هناك رابط ما بين الأمرين. لكن لا يمكننا الحديث الآن عن هذا الرابط، لأنه ينبغي أن نقوم بتشريح الغلاف الجوي عبر العروض الجغرافية من القطب إلى الاستواء، وأن نستخرج أشياء غير عادية مرتبطة إما بالتلوث، وإما بالحرارة العمودية، إلخ. وهذا لا نتوفر عليه الآن.
• في نظرك، هل سيؤثر توقف الاقتصاد حاليا في تراجع الانبعاثات الغازية، ومن ثم في تحسن جودة المناخ؟
*** هذا أكيد، لأن هذا التوقف الإجباري أدى إلى تحسن جودة الهواء. وإذا تابعنا على هذه الوتيرة، فإن ذلك سيكون هو المطلوب. هذا ما كان يطلبه العلماء لكي نقلل من غازات السقيفة وارتفاع الحرارة. لكن العلماء لم يقولوا بتغير المناخ بهذه الطريقة، وإنما يقولون بضرورة التقليل من غازات السقيفة. الآن، توقف الجميع عنوة، ولكن هذا الأمر لن يدوم، لا سيما ونحن نتجه نحو الفصل الحار، وأن الاقتصاديات العالمية تعثرت وتوقفت، وبالتالي لا يمكن أن يبقى الوضع على ما هو عليه الآن.
خوفي هو أن فترة الركود هذه سيعقبها تسارع وتسابق بعد الخروج من فترة الحجر بغية تدارك هذا الركود الاقتصادي. وهذا ربما سيجعل القوى العظمى على وجه الخصوص، والقوى الاقتصادية عموما، تسارع بوتيرة عالية لتدارك فترة الحجر. وفي هذه الحالة، ستتخذ خطوات أكبر للتقدم إلى الأمام، مع ما يفرضه هذا من صراع على ترتيبات المقدمة وقيادة العالم. وهذا شيء نعيشه، مع الأسف، حيث تتضرر منه البيئة. وإذا تضررت البيئة، نتضرر نحن كذلك.
• هل يمكن أن نتوقع انخفاضا في درجة حرارة الأرض؟
*** من الصعب أن نتوقع ذلك. ربما سيكون هناك استقرار بطيء، لكن لا يمكن أن نقول إن درجة حرارة الأرض ستنخفض. من الأكيد الآن أن مجموعة من الغازات توقفت لمدة تقترب من الشهرين على الصعيد العالمي. هناك شيء ما لا نهتم بها كثيرا، وهو أنه يجب أن نعرف أنه إذا قللنا من التلوث، سيصل الإشعاع الشمسي إلى الأرض بدرجة أكبر مما كان عليه خلال التلوث، وهو ما نسميه في اللغة المناخية بـ”مفعول المظلة”.
• هل هذا الأمر إيجابي أم سلبي؟
*** في البداية، سيكون سلبيا، لأن الحرارة سترتفع أكثر. لكنه سيصبح إيجابيا فيما بعد، لأن الحرارة قبل أن ترتفع في الأرض بسبب التلوث، فقد جرى حتما انخفاض الحرارة بفعل عرقلة الإشعاع الشمسي من الوصول إلى الأرض. لكن ذلك الإشعاع الذي بقي من الماضي، أصبح يتراكم حتى ارتفعت الحرارة فيما بعد. إذ بدأت بوادر هذا الارتفاع ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي. أما الآن، ونحن ننوي تخفيف التلوث، فيجب أن نقتدي بتوجيهات علماء متخصصين في هذا الأمر، أي ما يتعلق بالدراسات الكيميائية للغلاف الجوي ووظائفه الأساسية. إلخ.
من هنا، لا يكفي فقط، أن نوقف التلوث، كما فعلنا اليوم، بعدما أوقفناه عنوة. فالعنوة خطيرة جدا، حيث ينبغي أن تجري الأشياء بالتدريج دائما، حتى تعطى الطبيعة والإنسان معا فرصة للتأقلم مع التحول. ماذا ستفعل الطبيعة إذا توقف التلوث عنوة؟ سيصل الإشعاع الشمسي بسرعة إلى الأرض، ومن ثمة سترتفع حرارتها. هذه نتيجة حتمية.
فيما بعد، وعلى امتداد قرون ربما، يمكن أن تستقر الحرارة، لكننا لا نعرف تفاصيل الأشياء، على اعتبار أن المنظومة البيئية معقدة وصعبة للغاية. صحيح أننا فهمنا الكثير من مكوناتها، ولكني أؤكد لك أننا نجهل أكثر مما نعرف. وهذا يجب أن نهتم به، لأن المنظومة ليست بهذه البساطة التي يظنها البعض.
• هناك من يقول إن هذه الجائحة ستدفع حكومات العالم إلى إعادة النظر في نماذجها الاقتصادية. في نظرك، ألا يمكن أن يفكر العالم من جديد، بناء على النتائج الحاصلة على مستوى تحسن بعض المكونات المناخية، في القضية المناخية ويعيد النظر في سياساته تجاه البيئة؟
*** قبل هذا الوقت، كنت قد قلت بكلام يشبه هذا، لكن في تفاصيله نوعا من الاختلاف، ألا وهو أننا توقفنا عن مجموعة من الأشياء في هذه الفترة. أهمها هو أن فهمنا ما يمكن أن نقوم به وما لا يمكن أن نقوم به. عرفنا، كذلك، طبيعة سياستنا الحقيقية وغير الحقيقية. بعد هذه التجربة، من الأكيد أن كلا منا، أفرادا وجماعات، دولا وحكومات بالطبع، صار على يقين يعرف ما يمكن فعله وما لا يمكن فعله.
كما أن هناك مجموعة السلسلات الاقتصادية- إن أردت- طرحت مشاكل تخص الإنسان، لا سيما إنتاج الأدوية. ومن هنا، أنا متيقن أن الاقتصاد العالمي سيشهد وضعا مغايرا بعد هذه الجائحة، مما سيجعل دولا بعينها تجتهد كثيرا لكي تعيد هذا النوع من الصناعات الاستراتيجية لها إلى بلدانها، رغم أن ذلك سيسبب خسائر كبيرة لبلدان أخرى، خاصة بلدان العالم الثالث التي تنجز هذه الصناعات بالمناولة. إذ يجب أن نهتم بهذه العملية كثيرا.
إذا، اكتشفنا أشياء كثيرة في هذه التجربة، لا من الناحية الطبيعية، ولا من الناحية المناخية، ولا من الناحيتين السياسية والاقتصادية. عرفنا، كذلك، كيف يمكن أن نقلل من تنقلاتنا، حيث كنا نتنقل كثيرا بحرية مبالغ فيها (ولكن يجب ألا يفهم من كلامي أنني ضد الحرية). إذ اكتشفنا أننا كنا نقوم بتنقلات لم تكن لازمة وضرورية.
وفي المقابل، انعدام الحركة، مثلما نعيش الآن، مضر جدا للصحة وجوانب أخرى. والمهم من كل هذا أننا قبلنا- وأؤكد على كلمة “قبلنا”- بالحد من حريتنا، حيث التزم الجميع بذلك بطريقة فردية وجماعية واعية. لكننا اكتشفنا بهذه الطريقة، التي فرضها علينا هذا الوباء، أن هناك الكثير من الأشياء الزائدة، وأن هناك مجموعة من القدرات التي كان من الممكن أن نقوم بها، لكننا لم نكن نتجرأ على إنجازها.
• بناء على هذا، ألا ترى أن الحكومات قادرة على إعادة النظر في القضية المناخية على غرار ما يُطرح الآن من ضرورة تغيير المنظور إلى القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلخ؟
*** بالمناسبة، تسير هذه الأمور مجتمعة، لأن الذي يعرقل الاهتمام بالمناخ وتطبيق توصيات العلماء، فهو النظام الاقتصادي، لا أقل ولا أكثر. حينما نكتشف أن هناك مجموعة من الأشياء التي يمكن أن نتخلى عنها، ومجموعة من الأشياء التي يمكن أن نقوم بها، يمكننا أن نطرحها للنقاش، وأنا متيقن من أن الأمم المتحدة ستطرحها للنقاش في المستقبل القريب. إذ يمكن، على سبيل المثال، إقرار فترة معينة تكون بمثابة راحة بيولوجية أو راحة طبيعية، حيث بدل أن يكون هناك يوم عالمي للبيئة، يمكن أن يصبح الشهر العالمي للبيئة. لِم لا؟
ثمة، كذلك، أشياء كان السياسي يتخوف منها، حيث صار اليوم يمتلك الدليل على أنه يمكن أن يقوم بأشياء من دون تخوف. لم يعد هناك أي مبرر عند الدول المتقدمة، ولا باقي الدول، ولا الشركات الكبرى، يجعلها تتخوف على القيام بعدة أشياء.
ولكن ينبغي اليوم أن نطرح السؤال عن الأشياء التي يجب ألا نتخلى عنها؛ أي الأشياء الضرورية في الحياة. ومن جملتها الأكل واللباس وشروط الحياة الأساسية، وكذلك الدواء والتعليم والاقتصاد الذي ينبغي ألا يتوقف.
نعرف اليوم أن هناك عرقلة لمجموعة من القطاعات التقليدية، بحيث يفرض علينا مستقبلا بأن نعمل عن بعد. وهذا سارٍ في الصين على وجه الخصوص، حيث يشتغل الكثير من الصينيين، بعد العمل الرئيس، عن بعد من منازلهم. من هنا، فالصين محطة أساس تقدم لنا دروسا في هذا المجال.
صحيح أن هذا الأمر يقوم على دوافع اقتصادية واستراتيجية بالنسبة إليها، إلا أنها أوجدت بديلا لساكنتها الكبيرة جدا تخص وسائل مختلفة تساعد على العمل والعيش من دون الخروج من البيت. إذ يمكن أن نقوم بهذا بعد رفع الحجر، لكن بطريقة مدروسة، لأن بها الكثير من الأمور المرتبطة بحقوق الأفراد والجماعات، مع تطوير القوانين لكي تصبح مندمجة وديمقراطية.
أظن أننا سندخل، بعد هذه الجائحة، في عالم سياسي واقتصادي وعلاقاتي وأخلاقي آخر. لن ننظر إلى الأطباء والممرضين كسائر العاملين والموظفين، على اعتبار أنهم يمارسون وظيفة مختلفة. لن ننظر، كذلك، إلى المعلم كموظف لا قيمة له، أو كسائر الناس. لا، ليس المعلم كسائر الناس، حيث من دونه، لن تكون حكومة، ولا وزارة، ولا اقتصاد، إلخ.
هكذا، علينا جميعا، من الآن فصاعدا، أن نؤمن بأن هذه الجائحة فرضت ضرورة تغيير منظوراتنا إلى الإنسان والأشياء. وعلى كل حال، فأنا متيقن أننا سندخل، بعد هذه التجربة، إلى عالم أكثر تطورا. وفي المقابل، أخاف أن ندخل عالما أقل ديمقراطية- لا أدري- حيث يجب أن نهتم كثيرا بتسارع الأحداث وعوائق الاقتصاد وصعوبات الأفراد، إلخ.