دروس الأوبئة خلال ثمانية قرون.. التاريخ لا بد أن يتكرر على نحو مؤسف

14 مايو 2020 - 15:00

التاريخ لا بد أن يتكرر على نحو مؤسف، وإن كان سنعزي أنفسنا، على الأقل، بالاستفادة من انخفاض معدلات الفائدة. وهذا لن يرضي الحكومات التي تحتاج إلى المليارات لمواجهة حالة الطوارئ، وأخرى لتحفيز الانتعاش الاقتصادي

بالعودة إلى التاريخ، سنتوصل إلى أن الاقتصاد سيحمل ندب « كوفيد ــــ 19 » طويلا. لكن أحد آثاره الإيجابية قد يكمن في رفع الأجور.

في سنة 1918، تساءلت حكومات المدن والولايات الأمريكية عن جدوى إجراءات العزل لوقف انتشار جائحة الإنفلونزا الإسبانية، التي زرعت آثارها في المناطق الشرقية المتضررة الرعب في باقي الولايات. فكان قادة مدينة « مينيابوليس » أول من أغلق المدارس والكنائس والمسارح، إلخ. فيما بدا آخرون، خاصة في مدينة « سانت بول » التي تقع على الجانب الآخر من نهر ميسيسيبي، خائفين من احتجاجا رجال الأعمال الذين كانوا يخشون من تأثير هذه الإجراءات على الاقتصاد.

كانت الخسائر البشرية والاقتصادية الناتجة عن وباء الإنفلونزا الإسبانية فادحة على ضفتي النهر. لكنها كانت أفدح في « سانت بول ». وبرزت الظاهرة ذاتها في مدن أخرى لم تتخذ إجراءات مماثلة لمواجهة الوباء، مثل « كليفيلاند » و »بيتسبورغ » و »لوس أنجلوس » و »سان فرانسيسكو »، إلخ.

لكن هل نكتفي بهذه العودة مائة عام فقط إلى الوراء؟ ثمة دراسة أصدرتها جامعة كاليفورنيا، تعود إلى الوراء أكثر من ذلك، لتركز على تاريخ خمسة عشر وباء أدى كل واحد منها إلى وفاة مائة ألف شخص. تبدأ هذه الدراسة بما يسمى الطاعون الأسود الذي أصاب ما بين ثلث إلى نصف سكان أوروبا خلال العصر الوسيط، وتنتهي بإنفلونزا « إتش1 إن1 » خلال سنة 2009 (203000 وفاة). تفيد آخر الأخبار أن عدد ضحايا « كوفيد ـــ 19 » يقترب من مائتي ألف وفاة (تجاوز هذا الرقم في نهاية أبريل الماضي 224 ألف وفاة).

تفيد هذه الدراسة، التي ارتكزت على أبحاث موجودة، أن الاقتصاد سيعاني آثارا سلبية خلال الأعوام الأربعين المقبلة، أي ما يعادل الأزمة المالية لسنة 2008 بأربعة أضعاف إلى ثمانية. سيهم هذا الأثر، أساسا، جمهور العمال والمستهلكين، بينما وسائل الإنتاج، مثل الأراضي الفلاحية، المحترفات، الورشات، المصانع… لن يكون هناك سبب يدعو إلى الاستثمار في منشآت الإنتاج الاقتصادي الجديدة.

وتشير الدراسة، من جانب ثان، إلى أن أثر الوباء هو بخلاف آثار الحرب التي يعوض فيها موت الإنسان بتدمير المدن والطرقات والمصانع، ثم يبنى كل شيء من جديد بعد الحرب. فانخفاض العمال الحاد والمفاجئ لا يتماشى والقيمة النسبية لأولئك الذين ظلوا على قيد الحياة، كما تلاحظ الدراسة. هكذا، فإن الأوبئة الخطيرة كانت تمارس ضغطا كبيرا على الأجور لفترة تزيد عن ثلاثين سنة.

وتسرع الصدمة الأولية والتحولات البنيوية التي تنتج عنها، في بعض الحالات، التحولات الاقتصادية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، يعزى في الغالب إلى أوبئة الطاعون الكبرى التي شهدها القرن السابع عشر ارتفاعُ تكلفة اليد العاملة، وكذا زيادة الطلب على منتجات المصانع، مما يؤدي إلى تطور المدن التي تستقر بها هذه المصانع.

وخلافا لذلك، أشارت مجلة « دي إيكونوميست »، في عددها الصادر الشهر الماضي، إلى أن بعض الأوبئة الفيروسية أو أوبئة الحمى ساهمت، ربما، في تفكيك طرق تجارية واسعة وسلاسل إنتاج عالمية كانت قد أنشأتها الإمبراطورية الرومانية، وأنها احتاجت إلى مئات السنين لكي تعود إلى نشاطها السابق.

ولا تخلو المقارنة بين الوباء الراهن والأوبئة السابقة من مجازفة، كما يؤكد ذلك الخبراء المتخصصون. فعلى سبيل المثال، لا يؤثر الوباء الحالي، بشكل أكبر، إلا في الكهول والعجزة، ولا يخشى أن يفقد العالم مصدر قوته، أي فئة الشباب. أضف إلى هذا أن اقتصاداتنا الراهنة تبدو أكثر تعقيدا وتشابكا، واستقلالية في الآن عينه، مما كان عليه الأمر قبل قرنين أو ثلاثة، وهي مدعومة، أيضا، من طرف السلطات العمومية بشكل أكبر مما كانت عليه في عصور سابقة، بل بشكل مختلف حتى عن الوضع الاقتصادي الذي كان يشهده العالم إبان اجتياح الإنفلونزا الإسبانية القارات الخمس، بحسب ما يلاحظه مؤلفو الدراسة المذكورة.

غير أن التاريخ لا بد أن يتكرر على نحو مؤسف، وإن كان سنعزي أنفسنا، على الأقل، بالاستفادة من انخفاض معدلات الفائدة خلال العقود القليلة المقبلة، كما تخلص إلى ذلك هذه الدراسة. وهذا الأمر لن يرضي الحكومات، على الخصوص، التي تعلن منذ أسابيع أنها في حاجة إلى أموال بالمليارات لمواجهة حالة الطوارئ، وإلى مليارات أخرى من أجل تحفيز الانتعاش الاقتصادي.

بتصرف عن « لوكوريي أنترناسيونال »

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي