منير أبو المعالي يكتب: «الوالي أغسطس»

11 يونيو 2020 - 18:00

ما الذي يجعل الولاة والعمال الأكثر أهلية لتقييم قيود حالة الطوارئ؟ بوصفهم أشخاصا معينين من سلطة حكومية، ويمتلكون أوراق اعتماد تُحصنهم تقريبا من أي ملاحقة، فإن هؤلاء الموظفين المكتبيين يمتلكون سلطة هائلة، وهم يستعملونها دون الخضوع لرقابة أي كان. لا مجال لشرح أو تفسير قرار. في الأزمات، يصبح الولاة بمثابة قادة عسكريين ذوي صلاحيات مطلقة؛ وأن يمنح وزير الداخلية مرؤوسيه كامل السلطة لفعل ما يشاؤون بمصائر الناس، فإن ذلك أمر طبيعي. الدولة في بنيتها العميقة، على كل حال، لا تثق في أحد آخر سوى موظفيها المخلصين. لكن، أن تكون للولاة وظيفة «حاكم» مطلق، فإن كل مقولات الديمقراطية تنهار. لم يُجر أي تقييد لأداء رجال السلطة طيلة حوالي ثلاثة أشهر، ولم يوجَّه نقد إلى أي واحد منهم، فيما كانت الأرض كلها لهم يحرثونها كما شاؤوا.

من الواضح أن الدولة قد حسمت قرارها منذ بداية الأمر؛ فجائحة «كوفيد-19» لم يكن ليسمح لها بتقويض الأسس الصلبة في الإدارة، وما كان ليُسمح كذلك لأي هامش ديمقراطي بالتنفس أكثر. ولقد لقيت هذه السيطرة تصفيقا كبيرا من لدن أولئك الذين طالما شككوا في قدرة أي أحد «غير الدولة» نفسها على منح الخلاص للناس. للمسؤولين المنتخبين حق واحد: أن يعملوا على تلقي الأوامر من وزارة الداخلية، ثم ينفذوها. في نهاية المطاف، وكما لاحظنا ذلك مرارا في البرلمان، فإن وزير الداخلية لا يقدم كشف حساب، ولا يتعرض لمساءلة. يذكرني ذلك بعهد إدريس البصري عندما كان يلقي ملاحظاته، ثم يطلب من النواب أن يصححوا له، وهو يستخدم عبارة مقيتة: «مسموح لكم فعل ذلك». لا يختلف ما يفعله وزير الداخلية الآن في البرلمان، في العمق، عما كان يفعله البصري آنذاك.

لكن، لا ينبغي أن يُلام وزير الداخلية أكثر مما يجب على فعل ما يتقن فعله بتلك الصفة. يستفيد وزراء الداخلية من القوة المعنوية لمناصبهم، لكنهم، دون شك، يراكمون الصلاحيات بوقوف المسؤولين الحكوميين المنتخبين صامتين. مثل خُشب مسندة، يجلس البرلمانيون في جلسات الاستماع بكل تمعن إلى وزراء الداخلية، ولا أحد تقريبا بمقدوره أن يعارض شيئا. نوع من «التوافق» المشين على الاستسلام للسلطة الضمنية لوزير محدد، يجعل من أي قدرة على التصحيح مجرد هذيان تسمح به منصات شكلية صُممت للحفاظ على مظاهر الاختيار الديمقراطي.

بشكل تسلسلي، ومن الأعلى إلى الأسفل، يحق للولاة أن يعاملوا المسؤولين المنتخبين بازدراء أيضا. في الواقع، فقد أفسحت وزارة الداخلية الطريق لهم لفعل ذلك، وهي تجمد كل الصلاحيات المخولة لمجالس الجماعات. ولسوف يجد المنتخبون، عموما، أنفسهم معطلين عن العمل باستثناء ما سُمح لهم به، أي أعمال التنظيف الضرورية فقط، وهي صيغة دقيقة لما يجب أن يعنيه المنتخبون لرجال السلطة الذين يتمتعون بالسلطة المطلقة في هذه الظروف. ويلخص هذه القصة مشهد رئيس جماعة وهو يحمل على ظهره قارورة سائل تطهير ويرش بعض المحلات في جماعته، فيما «القايد» خلفه ينفجر ضحكا.

ومع ذلك، ليس في هذه القصص عناصر جديدة. الاستخفاف بالمنتخبين مذهب لدى السلطة. لكن، دون أن يخادعنا أحد، لم يتغير شيء كثير، ورؤساء الجماعات الذين أبعد عنهم القانون سلطة الرقابة المباشرة لرجال السلطة، غالبا هم ما يلجؤون بأنفسهم إلى هؤلاء الرجال لكي يظهروا أنهم عديمو القدرة على مخالفتهم. إن ضريبة مواجهة رجال السلطة عادة ما تكون محددة مسبقا، ورؤساء الجماعات الذين يجدون أنفسهم دون أغلبيات فجأة، بمجرد حصول خلاف مع عامل عمالة، درس تطبيقي حول ما تعنيه مقاومة رجال السلطة. إذا لم ينته بك الأمر معزولا وملقى بك في زنزانة، فأنت دون شك ذو حظ سعيد.

الحكومة، في أزمة كورونا، تحكم بالمراسيم، وهي حيلة تلجأ إليها عادة لتجنب أي تأخير تفرضه قواعد الديمقراطية. رئيس الحكومة لا يملك وقته، ولئن مُنح بعضه، فإن ذلك في حدود أن يلقي خطابا في البرلمان، دون أن يليه أي تصويت، ثم يغادر. وكما لا يملك رئيس الحكومة وقته، في غالب الأحوال، لا يمتلك قراره. إن ما يرسم لرئيس الحكومة حدود قراره هو مرسوم وزيره في الداخلية. شهر إضافي أو شهران مضافان.. ليس لرئيس الحكومة دور في ذلك.

رغم ذلك، هناك أعمال مقاومة غير معلنة على كل حال. وزير الداخلية يريد شهرين دون شك، وبوصفه شخصا تقنوقراطيا، فإن مجموع الاعتبارات المندمجة في عقله لتقرير مصير الحجر الصحي، ليست بالضرورة تلك التي يجب أن يأخذها بعين الاعتبار شخص سياسي سيطلب منه لاحقا -مهما تأخر الوقت- أن يشرح للناس لمَ فعل ما فعله. وإذا أجريت الانتخابات، وحوسب رئيس الحكومة على أعماله في هذا الصدد، وسقط، فليس غريبا أن نرى وزير الداخلية الحالي في فريق عمل رئيس الحكومة الذي سيخلفه.

إن الأشخاص الذين يديرون مسائل عسيرة مثل هذه لا تظهر آثارهم في الغالب على الأوراق، وكل ما نستطيع تتبعه هو توقيع لوزير الداخلية على مرسوم بشهرين، ثم توقيع رئيسه إلى جانبه على شهر. لكن، هل وزير الداخلية وحده من قدر أن تكون المدة شهرين؟ من الصعب حسم ذلك. تقف خلف هذا الوزير لجنة واسعة للأفراد الذين يعتقد أن دورهم بارز في تحديد مصير الناس في هذه الظروف، لكنهم، على ما يظهر، لا ينكشفون بأسمائهم حينما تُتخذ القرارات ذات المضامين السياسية. وهم على حق؛ فرئيس الحكومة مستعد للتضحية بدلا عنهم جميعا، ولسوف يلقي فضفضة بشأن كل ما لم يكن في حسبانه، ولسوف يعرضه وكأنه من بنات أفكاره. بعض الأشياء لم تعد تفاجئ أحدا، وليست مدعاة للتباهي على كل حال.

كان أغسطس حاكما جبارا، لكنه أيضا كان داهية. كان واليا، ثم لما أصبح إمبراطورا رومانيا، عانى مشكلات توزيع السلط. حسم أغسطس أمره وهو يقرر أن يجعل نفسه طاغية متنورا؛ ولسوف يفرغ مجلس الشيوخ، وكذلك باقي هيئات الرقابة السياسية، من محتواها، دون أن يجردها من صفاتها. لقد ترك دور التصديق على قراراته وحده، بصفته حاكما مطلقا، لتلك المؤسسات التي مازال أصحابها، كما الناس، يعتقدون أن لها دورا.

وعلى ما يبدو، فإن أغسطس اسم محبوب في ركن ما بالحكومة، وليس هناك ما يدعو إلى الخجل إن صدر مرسوم تمديد حالة الطوارئ يحمل التاريخ النهائي باسمه، على خلاف التقويم المعمول به في البلاد. أغسطس، في المحصلة الأخيرة، معناه في الأصل اللاتيني «الزيادة»، ومن المؤكد أن «الزيادة» في هذه الحالة لم تصدر عن رأس أحمق، ولكنها صدرت عن «رجل لامع»، وهي من المعاني الأخرى لمفردة أغسطس. الولاة والعمال دون شك سيحبون هذه القصة.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

abdou roonney منذ 3 سنوات

هل تريد اعطاء صلاحية تدبير جائحة لجماعات منتخبة اغلب اعضائها لا يتوفرون حتى على شهادة ابتدائية٠٠٠االله يعطينا وجهك٠٠لاتتقنون سوى النقذ الهدام

التالي