بذريعة أن الجمهور لا يمكنه الصعود، هبطت لغة قطاع كبير من «الصحافة الرياضية». وجر الهبوط هبوطا، إلى أن صار شبه مستحيل وقف الانحدار. وبالنتيجة، لم يعد ممكنا معرفة النقطة التي يقف عندها «خطاب الجماهير»ويبدأ «خطاب الصحافة»، والعكس صحيح.
لغة «الصحافة الرياضية»، خاصة عند الحديث عن كرة القدم، «حربية»بامتياز. فهي تدور كلها في «ساحات مدمرة»، حيث الهجوم، والدفاع، والتكتيك، والاستراتيجية، والخطة، والضربة، والركلة، والصاروخية، والجزاء، وفي أحيان حتى القتالية.
المصيبة أن «حماسة» بعض الإعلاميين، خاصة ممن يصرخون عوض أن يصفوا ما يشاهدون، ويسهموا في تحليله، تزيد تلك اللغة «حربية»، لتسهم بذلك في التخريب عوض أن تكون رافعة للبناء. وقد لا تفرق بين واصف لمباراة في الكرة وأي مخاصم يفجر في الشارع.
ولأن الأمر كذلك، يمكن المرء أن يستشف مدى الرابط الوثيق بين تنامي الخطاب العنيف لدى جملة من الجماهير وبعض الوسائط الإعلامية. فكل منهما يمتح من لغة الآخر، وكأن الأمر يتعلق بمعجم واحد لا غير. وكأن الأمر يتعلق بتواطؤ.
سئل الفنان محمد الدرهم، من قناة تلفزيونية مشرقية، عن قضية «الجمهور عاوز كده». فقال الفنان، ما معناه، إنها جملة خاطئة، فالفنان هو من يختار، لأنه صاحب الموهبة والفرادة. ولو أن الاختيار كان للجماهير، لكان معنى ذلك أن كل فرد من الجمهور فنان. وهذا ليس صحيحا نهائيا.
وإن جاز لنا أن نقيس بما قاله الفنان محمد الدرهم، سيصح أن نقول إن تلك «الصحافة الرياضية» الهابطة ارتكبت خطأ في حق المهنة، وفي حق الجمهور معا. ذلك أنها تخلت عن واحدة من المسؤوليات الملقاة على عاتقها في أن تسمو بالجماهير، لا أن تنصاع لها ولرغباتها، وخطابها.
لا نقول ذلك لقصور لدى تلك الجماهير، بل لأنها ليست هي الصحافة. وعندما تتخلى هذه الأخيرة عن دورها بذريعة أن «الجمهور عاوز كده»، فإنها تغادر موقعها، لتجلس مع الجمهور. وهذا ليس دورها، ولا مطلوبا منها. وبالنتيجة، ليس هو ما تنتظره منها الجماهير؛ أي أن المقولة خاطئة، ومن عمل بها واهم.
من بين ما ترتب على تنامي الخطاب العنيف، خاصة في ظل الفورة الرقمية، أن صار ما يقال وما يكتب، وهو غير عادي، عاديا جزئيا أو كليا. وبينما كانت حوادث «الشغب»، الممقوتة، تحدث في بعض الأحيان، وفي فترات متباعدة جدا، صارت تحدث بتواتر، بل وصار ممكنا توقعها، من خلال النقار الذي يسبق بعض المباريات على مواقع «السوشل ميديا»، وتغذيه بعض الوسائط الإعلامية الهابطة.
اللغة ليست لعبة. إنها حياة. وتلك الحياة إما أن تكون مثمرة وإما مدمرة. ولأن الصحافة تشتغل على هذه المادة، فكلما كانت حريصة على أن تسمو بها، نال من يتغذون عليها السمو. وفي الحقل الرياضي، حيث اللغة «حربية»بامتياز، يؤدي الميل إلى الوصف الهادئ، والتحليل المميز، إلى إخماد «حربية» المصطلح، ووضعه في الإطار السليم، ما يشجع الملتقين على التعاطي معه بهدوء، ودون أي تشنجات.
العكس بالعكس صحيح. فعندما تقرأ، مثلا، وعلى هامش مباراة بين المنتخبين المغربي والمصري، أنها «معركة أكتوبر»، فقط لتزامنها مع الاحتفاء بذكرى المعركة الشهيرة لأكتوبر 1973، فما الذي تنتظره من الجماهير في الملعب وخارجه، سوى أن تكون على أهبة الخصام، والفجور فيه؛ سواء أكانت النتيجة إيجابية لهذا الطرف أو ذلك، أو لم تكن كذلك لأي منهما؟
وقس على ذلك في الكثير من المناسبات، حيث تتحول لغة الوصف، أو المقالة، أو غيرهما، إلى لغة للتسفيه والتتفيه، وحتى التحقير، وذلك يضر بمصلحة المهنة، والجمهور، وبالضرورة بمصلحة الرياضة التي يدور حولها موضوع الوصف، والتي تؤدي الثمن غاليا في نهاية المطاف. وأقل ما تؤديه الفرق الآن، أنها تحرم من جمهورها بفعل الشغب.
إن اللغة والرياضة تشبهان بعضهما البعض في الواقع. فكلا الأمرين سام بطبعه. اللغة سمو بالإنسان عن سائر المخلوقات، والرياضة سمو به عن نفسه الخاملة الراكدة. ولا يصح أن يُستعمل ما هو سام في غير موضعه، ثم يطلب منه أن يكون نفسه. فهل يمكن أن تجرى مباراة في التنس، مثلا، دون شبكة ومضربين؟ إن صح ذلك، فمعناه أنه يمكن أن تستعمل اللغة فقط في السب والقذف، ثم يُتخلى عنها حين يتعلق الأمر بنظم قصيدة أو كتابة رسالة.
هذا هو بيت القصيد. ومن هنا يتضح، وبالدليل، أن تلك «الصحافة الرياضية» الهابطة توجد خارج السياق تماما؛ أي أنها تؤدي دورا لم توجد لأجله في الواقع. ومعناه أنها تؤدي الدور الخطأ. وبالنتيجة، فكلما أوغلت فيه، وصار يبدو لها وللمتلقي، وللناقد، أمرا عاديا، أضحى شبه مستحيل أن تنقذ نفسها منه، لتكون حيث ينبغي لها.
لكل مكانه. ولن تقبل الجماهير يوما، ولا ينبغي لها أن تقبل، بالجلوس مكان «الصحافة الرياضية»، وهي تستنجد بالأخيرة لكي ترى إن كان ما شاهدته وسمعته صحيحا، ولكي تعرف الجديد، ولكي تطمئن إلى أن الأوضاع غير السليمة ستصحح. وحتى في ظل وجود «السوشل ميديا»، فإن الجماهيرغير ممكَّنة من الوسائل المهنية للصحافي، فهي تنتج المادة الأولية، وليس المادة الصحافية. وهناك فرق كبير بين الأمرين.
من قال إن «الجمهور عاوز كده»؟ من هذا الذي كذب ويكذب على نفسه وعلى الناس؟