فؤاد بوعلي يكتب: عذرا ليوطي

22 نوفمبر 2020 - 06:00

احتفى المغاربة، أول أمس 18 نونبر، بعيد الاستقلال الذي يؤرخ لبداية بناء الدولة الوطنية بمقوماتها السيادية والهوياتية. ومع توالي السنين بدأ الاهتمام بالذكرى يتراجع  ويتوارى خلف ضغط الأحداث اليومية المتكررة، وبدأت الذاكرة تفقد تدريجيا عنفوان الحدث ومفصليته في تاريخ الوطن والأمة. فعيد الاستقلال لم يكن حدثا عابرا في تاريخ الوطن، بل هو مناسبة ليجتمع الشعب حول قيمه ومبادئه ودلالاته، ويحيي ذكرى رموزه الوطنية التي ناضلت من أجل وجود هذا الوطن. فباستثناء بعض المظاهر الفلكلورية هنا وهناك، وقلة من البرامج في القنوات الرسمية، لن تجد للحدث ذكرا في المنتديات الأكاديمية والمدنية. لكن الأدهى أن يأخذ النقاش الإعلامي والأكاديمي، بل والسياسي مسارا تراجع فيه أحداث الاستقلال باعتبارها تاريخا مغلوطا: فوثيقة 11 يناير ليست هي وثيقة الاستقلال الحقيقية، ورموز المقاومة والتحرير الذين ضحوا بأنفسهم لم يكونوا إلا خدما للبورجوازية والطبقيةـ بل الأدهى أن المارشال ليوطي الذي قاد حرب الحماية ينبغي أن يمنح صفات المجد والعلم والصلاح وينصب له تمثال في العاصمة الاقتصادية… فكل عناصر الذاكرة التي بنى عليها المغاربة انتماءهم ووجودهم ومشتركهم الجمعي غدت قابلة للمراجعة في زمن التشظي. فالعبارة التي قالها جورج سپيلمان منافحا عن الجنرال ليوطي بأنه: “أراد أن يضمن ازدهار المغرب عبر تحسين جودة خيراته الطبيعية وعبر وضع حد لتطاحن العائلات الكبرى، وأن يقضي على الأوبئة المتعاقبة والدورية”، مازال يتردد معناها في العديد من الكتابات المعاصرة. فقد خصصت مجلة “زمان” ملف عدد شهر غشت  الماضي للحديث عن “الوجه الحقيقي للماريشال”، حسب تعبيرها. الغاية هي إبراز صورة وردية لزعيم دافع عن الملكية وحدث الإدارة، حتى لقب بمهندس المغرب الحديث، وحافظ على دين المغاربة وعقائدهم. فليوطي ليس مجرد عسكري قاد جيوش الحماية، بل صاحب رؤية فكرية: فبالنسبة إليه الفعل العسكري ينبغي أن يكون مرافقا للفعلين السياسي والاجتماعي. بل أكثر من ذلك، تمثل منهج بونابرت في حملته على مصر وغدا عاشقا للشرق كسلفه، حيث منع المساس بتقاليد البلد وثقافته ونظامه السياسي. فكما ادعى بونابرت إسلامه أمام شيوخ الأزهر، فقد عمل الماريشال على الدفاع عن الإسلام، حيث عمل على تجريم الإفطار العلني خلال شهر رمضان، أو منع بيع الخمور لغير المسلمين، حتى أن الفقهاء قرؤوا اللطيف دعاء لشفائه. فليوطي ليس رجل استعمار وحماية، بل مفكرا منافحا عن الدين والملكية وعاشقا للبلد. ونتيجة لهذا العشق، فقد طلب أن يُدفن بالرباط، وهو ما تحقق لمدة وجيزة قبل أن ينقل رفاته إلى وطنه. هذه الصورة الوردية التي بدأت تتردد في الكتابات الإعلامية والصحفية، والتي تقدم المقيم العام للحماية الفرنسية باعتباره رمزا للتحديث والحفاظ على الملكية واحترام الإسلام تجعلنا نتساءل عن الدافع الحقيقي وراء استعادتها: هل هو علمي بحثي أم محاولة لصياغة تاريخ جديد للمغرب تتماهى فيه الذاكرة مع واقع الارتماء في أحضان الاستيلاب الثقافي؟ فاستنساخ التجربة المشرقية في التعامل مع بونابرت الذي ادعى كل ما نسب إلى ليوطي لاحقا من دفاع عن الوطن والدين، يؤكد أن معين الفكرة واحد. فإن كان تاريخ الحملة الفرنسية على مصر قد جرى تفكيكه لمعرفة الحقائق الثاوية وراء شعارات بونابرت والتي تتمثل في الصراع مع العثمانيين والإنجليز ومحاولة استمالة السكان المحليين، فإن اعتماد جل المنافحين عن ليوطي على وثائق فرنسية ذات نزوع استعماري يثبت أن الغاية هي مسح التاريخ الدموي لأول مقيم عام للسلطات الفرنسية. فالرجل الذي استقبل في فاس بما سمي بأيام فاس الدامية (أبريل 1912) التي خلفت نحو 600 قتيل، مما جعله يغير  العاصمة نحو الرباط، ليس بغية التحديث كما تزعم الكتابات الاستعمارية، بل هروبا من غليان العاصمة العلمية. كما أن دفاعه عن التقاليد والملكية ليس قناعة فكرية، بل هو جزء من مسار استعماري لإخضاع أبناء الوطن واستمالتهم للإدارة الاستعمارية. فهو القائل بأن “الطريقة المعقولة، والوحيدة، والأنسب، والتي أرسلتني فرنسا من أجلها، أنا وليس شخصا آخر غيري، هي اللعب الدائم على حبلي السياسة والقوة”. لكن محاولة تجميل صورته وتقديمه لأبناء المغرب باعتباره منقذا ومحدثا ومنافحا عن الثوابت الوطنية لدرجة أن يقول أحد الأساتذة: “لو خُيرت بين موسى بن نصير وليوطي لاخترت ليوطي”، هي محاولة لتغيير مسار التاريخ الوطني وحذف التاريخ الدموي الاستعماري لفرنسا التي ماتزال مصرة على استعادة ماضيها في كل حين. وما نخشاه أن يأتي علينا يوم نطالب بالاعتذار لليوطي ومن معه.

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي