ما قام به المغرب أخيرا، حين عقد اتفاقه الثلاثي مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، هو تحوّل جيو-استراتيجي كبير في تموقع المملكة إقليميا ودوليا، سوف لن تستثني تداعياته أيا من القوى المعنية بمنطقة الشمال الإفريقي.
ظهر الوقع الفوري المباشر جليّا على سلوك وردود فعل الجارين الشمالي والشرقي، حيث نلاحظ الترنّح الجزائري، وردود الفعل المضطربة لحكامها منذ عملية تحرير معبر الكركرات، والتي كانت مقدمة للتحول الكبير في التموقع المغربي، ثم ها هي إسبانيا تحاول بدورها جاهدة ابتلاع الخبطة المغربية في ملف الصحراء بكثير من المرارة والصعوبة، ولا شك أن الكثير من القوى والأطراف الدولية والإقليمية الأخرى معنية بالتموقع المغربي الجديد في الخريطة الدولية، وستصدر مواقف وقرارات جديدة بناء على ذلك. بعض تلك الأطراف سوق يضطر إلى مراجعة موقفه المتردد والغامض من قضية الوحدة الترابية للمغرب، وبعضها الآخر سوف يعدّل سلوكه في قضية الشرق الأوسط المركزية، أي القضية الفلسطينية، بناء على دخول المغرب رقما وازنا في المعادلة، وأول هؤلاء هو اللاعب التركي.
فأنقرة كانت واحدا من أكبر المستفيدين من سياسة «تازة قبل غزة» التي كان المغرب ينهجها عمليا، بغض النظر عن صحة هذه المقولة من عدمها، ووجدت تركيا، على مدى العقدين الماضيين، حين اختار المغرب أن يدير ظهره لسياسة القمم العربية الجوفاء والدبلوماسية الخطابية الفارغة، الساحة شبه خالية أمامها لإحياء علاقاتها التاريخية القديمة مع فلسطين والقدس الشريف، وتصبح تدريجيا تلك القوة الإسلامية الراعية للحقوق الفلسطينية، مستفيدة من الإضعاف التدريجي لحضور الأطراف العربية الأخرى التي استنزفتها اضطرابات ما بعد الربيع العربي.
هكذا أصبح رجب طيب أردوغان يستفيد من صورة القائد الإسلامي الأكثر قدرة على نجدة الفلسطينيين. ولم يكن موقف تركيا المعترف كليا بدولة إسرائيل، والمرتبط معها بعلاقات دبلوماسية وعسكرية وتجارية كاملة، سوى عنصر قوة في هذا الدور الذي تعاظم في الفترة الأخيرة، بشكل بات يجعل تركيا المخاطب الإسلامي المحتمل في أية «صفقة» لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، باعتبارها القوة الإقليمية المتمتعة بعلاقات وثيقة مع الطرفين، أي حليف موضوعي لإسرائيل، وعراب معترف به من جانب الفلسطينيين، أو جزء منهم على الأقل.
في هذا السياق، يمكن فهم السلوك التركي تجاه الموجة الأخيرة من التطبيع العربي مع إسرائيل، حيث انتقلت أنقرة من النقيض إلى النقيض في تعاطيها مع مرحلة ما قبل إعلان التطبيع المغربي وما بعده. ففي الوقت الذي واجه فيه أردوغان إعلان التطبيع الإماراتي بالشجب والتنديد والتهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والإمارات العربية المتحدة، سارعت أنقرة إلى نهج مناقض تماما إثر إعلان استئناف العلاقات المغربية الإسرائيلية، حيث باتت، وبشكل مفاجئ، مستعدة لإعادة تعيين سفير لها في تل أبيب، وخرج أردوغان شخصيا يوم الجمعة الماضي ليعلن أن بلاده ترغب في علاقات أفضل مع إسرائيل، وخرجت أصوات مقربة منه لتضيف أن مواقفه القوية السابقة ضد الدولة العبرية كانت نتيجة تقديرات خاطئة لبعض مستشاريه…
صحيح أن محاولة إحياء التقارب التركي مع إسرائيل بدأت قبل إعلان التطبيع المغربي لعلاقاته مع تل أبيب، وجرى ذلك تحديدا على خلفية التحالف الموضوعي الذي جمع بين تركيا وإسرائيل في دعمهما العسكري المشترك لأذربيجان في حربها الأخيرة ضد أرمينيا؛ كما أن وزير الخارجية الأذري بادر إلى الوساطة بشكل رسمي، وحاول التدخل لدى إسرائيل لحملها على الاستجابة لرغبة تركية جديدة في إعادة العلاقات الدبلوماسية إلى طبيعتها بعد عامين من إقدام تركيا على سحب سفيرها لدى إسرائيل؛ لكن التحوّل يظل لافتا في السلوك التركي بعد التطبيع المغربي، ويكفي أن وزير الخارجية التركية، بعد يوم واحد من إعلان المكالمة التي جمعت بين الملك محمد السادس والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم 10 دجنبر الماضي، اتصل بنظيره المغربي ناصر بوريطة، ونشر على الفور، عبر وسائل إعلام تركية، خبر هذا الاتصال، وقوله إنه طلب من المغرب عدم جعل هذا الاتفاق على حساب الحقوق الفلسطينية. رسالة واضحة مفادها محاولة التذكير بأن تركيا ستبقى الراعي الأول للحقوق الفلسطينية، وهو ما لم تكن تركيا ترى حاجة إليه عندما طبّعت الإمارات العربية المتحدة والبحرين، ولا حتى السودان التي تعتبر ساحة لمصالح جيو-استراتيجية صاعدة لتركيا في الشرق الإفريقي.
هل هي مجرّد «غيرة» تركية، وخوف من فقدان موقع مؤثر في القضية الفلسطينية أمام لاعب جديد يحتفظ بأوراق وازنة، بدءا من رئاسته لجنة القدس داخل أكبر منظمة إسلامية، وانتهاء بالإسرائيليين المنحدرين من أصول مغربية؟ أظن أن الخطب أكبر من ذلك، ومرتبط بتحوّل شامل في خريطة التحالفات الدولية، وحسم لمسار طويل من تفاوض الجميع مع الجميع في العقدين الماضيين، ورسم معالم النظام العالمي الجديد.
بعيدا عن القضية الفلسطينية، ينبغي قراءة ردّ الفعل التركي عقب الخروج الدبلوماسي المغربي من خلال الدور الأمريكي، وما يعنيه اعتراف واشنطن الكامل بمغربية الصحراء من نقل للمغرب من مرتبة الحليف الاستراتيجي من خارج حلف شمال الأطلسي، إلى مرتبة أعلى. هذا الاستدعاء الرسمي للدور المغربي في الترتيبات الكونية الجديدة جاء مزامنا لصدور ما يمكن تشبيهه بالحكم القضائي الذي سيُنطق به بعد مداولة طويلة، والمتمثل في حزمة القرارات القاسية التي صدرت عن كل من الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية ضد تركيا، وهي عقوبات لم تكن أنقرة تتوقعها من الجانبين، مع ما تعنيه من تحوّل في تقدير المنظومة الغربية لدور تركيا وموقعها في المعادلة الدولية.
التقاط هذه التقاطعات لا يعني بالضرورة أن المطلوب من المغرب هو تعويض تركيا في موقعها العسكري والجيو-استراتيجي مع الغرب، أو الدخول في تناقض ما مع أنقرة، بقدر ما يهدف إلى تسليط الضوء على أحد التداعيات الكبيرة والمعقدة للخطوة المغربية الجديدة، ما يستدعي أقصى قدر من اليقظة والحفاظ على وحدة الصف الداخلي وتماسك الجبهة الوطنية. فالأمر لن يمرّ بردا وسلاما، بقدر ما سيدفع الأطراف التي تضررت من هذا الخروج الدبلوماسي المغربي إلى ردود فعل، وتحريك قطع الشطرنج فوق الرقعة بما يحمي مصالحها، وهذا يبدأ مع القوى الدولية الكبرى مثل الصين وروسيا، وبعض القوى الصاعدة مثل تركيا، والجيران الأقربين كإسبانيا والجزائر، وحتى بعض الأصدقاء الصامتين، مثل فرنسا.