الانتقال السلطوي.. من «بنعلي هرب» إلى «بنعلي زرب وهرب»

09 يناير 2021 - 19:00

«إن ما يقع في مواجهة الفكر والمعارضة والنقد والرأي، يجعل أطروحاتنا المتعلقة بالانتقال الديمقراطي وبالتطور التدريجي محط سخرية من الناس»، بهذه الكلمات لخص القيادي اليساري، محمد الساسي، الحرج الذي أحس به والذي كان يرشح من نبرة حديثه، وهو ينطق كاسرا صمت المحرجين الذينتجرف انزلاقات المرحلة ما قضوا دهرا في سبيل تكريسه. بدأ سيل كلامه باعتراف ثقيل حينما سألته عن رأيه في ما يحدث بشأن واقع الحريات والصحافة منذ فترة، وحول العديد من القضايا المثيرة للرأي العام، آخرها قضية اعتقال الحقوقي والمؤرخ، معطي منجب؛ «أعترف لكم بأني شخصيا مصاب بالإحباط»، هذا كان آخر ما يمكن أن أتوقع سماعه وأنا أتصل برجل خبر مراحل سياسية حرجة بالمغرب، نسمع ونقرأ عنها نحن الجيل الذي لم يعايشها كأنها كوابيس كانت في ليلة حلم طويل لبلد اسمه المغرب، استفاق منه قبل أن نفتح أعيننا عليه. كان جوابا محبطا لمن يتمسك بخيط الأملكتمسك من يروي ظمأه بالسراب.

وأشد من الإحباط أن ينجح التجريف والتسفيه في جعل مواقف كالتي يؤمن بها الساسي وجزء محترم من النخبة المغربية «محط سخرية»، وهو مؤشر خطير، ليس فقط على فقدان الثقة في خطاب السلطة، بل على تجاوز تلك المرحلة إلى فقدان الثقة في الخطاب الذي يقف حلقة وسطى؛ بين مد شعور الخذلان من أطروحة التغيير من داخل المؤسسات، وهو شعور حسي متنامٍقد يجد ضالته في وعاء خطابي وسياسي مقتنع بلاجدوى العمل من داخلهاأساسا، وبين مد تسفيه المؤسسات وإفراغها من أي بذرة جنينية للثقة فيالماسكين بها أصلا، من لدن السلطة نفسها. هذه هي المنزلة الصعبة بين المنزلتين، والتي صار يجد فيها أصحاب خطاب التحول التدريجي أنفسهمفيها، وهناك مناسبات كثيرة وقع فيها إذلال الأحزاب المشاركة في الحكومة أو التي تقودها، أو أنها أذلت نفسها، أو هما معا، والمناسبات التي وقع فيها إضعاف النقابات ونخب الوساطة، وأي حل يتوسط المدَّين.

هل يقع تعريض حملة الخطاب الذي يسميه الساسي بـ«المعارضة المعتدلة» للسخرية، أم إن أزمة هذا الخطاب تتجاوز الجميع، وهي سخرية التاريخ؟ لنفكك كلمة السخرية التي أشار إليها الساسي.. سخرية الناس، على حد تعبيره، أي سخرية رأي عام، لنفككها على ضوء ما قالته الباحثة الألمانية إليزابيث نويل نيومان في تعريفها للرأي العام بأنه «الضغط الذي يقود إلى التوافق»، وهي تؤكد في أطروحاتها النظرية «دور الخوف من العزلة في حدوث دوامة الصمت. فعندما يدرك الفرد أن رأيه ينتمي إلى رأي الأغلبية، فإنه يمكن أن يعبر عن رأيه ويتحدث علنا دون خوف من فقدان الشعبية أو احترام الذات. وإذا كان العكس هو الصحيح، فإن الشخص ربما يختار أن يبقى صامتا، ويتجنب الحالات التي سيكون فيها عرضة للإحراج أو في وضع المواجهة، أو أن يكون محل سخرية الآخرين ونقدهم»، غير أنه، ومن سخرية القدر، أن الآية معكوسة في منطق الأشياء لدينا، فمن يلوذون بالصمت قسرا، يفعلون ذلك تحت وابل التهديد بالتشهير وانتهاك الحياة الخاصة، والخوف من موجة الاعتقالات المتتالية (وهذا رأي يؤكده باقي المتكلمين أو من تكلموا سابقا من شخصيات في مجالات الأعمال والسياسة والحقوق والشأن الأكاديمي، تسعفني ذاكرتي في تذكر مواقفهم واحداواحدا)، ولا يأتيهم من أغلبية تعبر عن رأي عام مخالف، بل من السلطة، أو من يدعون القرب منها، أو من يتقوون بعلاقة القرابة بها. فقائمة الصحافيين وأصحاب الرأي الذين تحدث عنهم الساسي، سواء الذين تعرضوا للاعتقال أو من اضطروا إلى مغادرة البلاد، لا ينتمي رأيهم إلى الأقلية، ولم يتعرضوا للحصار، لأن كلمتهم غير مسموعة، بل على العكس تماما، وآخر الضربات تجلت في اعتقال الناشط الحقوقي والمؤرخ معطي منجب، وقال عنها الساسي: «لا يمكن أن يفصل عاقل اعتقال منجب عن سياق سنوات من التشهير»، وعن والضغط والمحاصرة وعن أطوار محاكمة لم تبدأ ولم تنته منذخمس سنوات، وآخر جلساتها في أكتوبر الماضي، ولا يُعرف هل دخلت الرف أم أخرج منجب من قائمتها ليدخل السجن بلا مواربة. إنها حلقة من حلقات تجريف هامش الحريات، وهذا ما يقفز إلى ذهن أي متتبع بسيط لسلوك السلطة وبعض وسائل الإعلام مع هذا الفاعل منذ سنوات، الأمر الذي تابعه متابعون عبر العالم وليس فقط في المغرب، وهو ما جعل وقع الاعتقال يلقى ردا فوريا من أطياف حقوقية شتى داخل المغرب وخارجه ومن شخصيات فكرية لها سمعة دولية محترمة.

هناك شيء ما مخفي تظهره كل هذه الأحداث المتتالية بما تثيره من نقاش لدى الرأي العام، قد يبدو الأمر مظهرا من مظاهر القوة ظاهريا، لكنه في الحقيقة ينم على أن هناك حالة خوف تسكن عقل السلطة التي تحاول عكسها على من ترى في خطابهم ربما خطرا وربما ضجيجا لا طاقة لها به، وإشاعة حالة الخوف في صفوف النخبة التي رغم التضييق فإن خطابها يتسع في صفوف الفاعلين الرقميين على شبكات التواصل الاجتماعي ولدى فئة من الشباب الطامح إلى حياة اجتماعية وسياسية تضمن الكرامة والمواطنة. ليس القوي الذي يحب أن يرى قوته من خلال خوف الآخرين منه. هذا نمط قديم من السلطوية الأبوية التي تجاوزها العصر، بل إنه الذي يرى في عيون الآخرين الاطمئنان إليه، وهكذا يكون مطمئنا هو الآخر، إذن،هناك توجس من حالة ما تجعل السلطة تسقط خوفها على الآخرين، وتربك كل شيء.

وبتدقيق بسيط في مجريات الأمور وتأمل ما قاله الساسي عن الحرج الذي يحس به بصفته «معارضا معتدلا»، سيظهر أن السلطة هي التي تشعر بالحرج من الخطاب الذي وصفه الساسي بذلك الوصف، أي الذي شرحه في النهاية بالقول: «إنكم تحرجوننا نحن المعتدلين، نحن الذين منذ منتصف السبعينيات راجعنا أفكارنا وأطروحاتنا، وقمنا بإسقاط أطروحة إسقاط النظام السياسي شرطا للعلمية الديمقراطية»، بكل بساطة، لأنه خطاب ينفذ وله وقع، فحتى في عز حراك عشرين فبراير، ظهر أن طيفاواسعا التف حول الخطاب الذي يرمي إلى توسيع هامش الحريات السياسية وإعطاء قوة للمؤسسات بتقوية صلاحيات المنتخبين، وغيرها من شعارات محاربة الفساد ومحاكمة المتورطين فيه، ولم ينفذ خطاب آخر يبغي أكثر من ذلك، وهو معزول أصلا.

في جواب عن سؤال طرحه عليه صحافي حول الحديث عن «تونسة المغرب»،رد المعطي منجب مصححا السؤال: «قل البنعلة وليس التونسة»، مفسرا ذلك بأن تونس هي الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي حاليا. والحديث عن «بنعلة المغرب» ليس بجديد، فبوبكر الجامعي يقول إنه في عهد «لوجورنال» صدر غلاف بهذا العنوان، وتحدث عنها الصحافي علي أنوزلا في مقال له يصف وضعية الحريات بالمغرب، واللجوء إلى أساليب تشويه المعارضين واستعمال الحياة الخاصة، وهو مقال يقول كل شيء من عنوانه: «البنعلية تعود لتطل برأسها من جديد لكن.. من المغرب». صدر المقال سنة 2014، حيث بدأت، بعد سنوات قليلة من الانفراج الذي خلفته «حركة عشرين فبراير»، إرهاصات إغلاق نافذة الحريات التي فتحت، أما الآن،فحينما تشير منظمات دولية إلى وضع المغرب بهذا التوصيف، ويشير إليهمحللون ونشطاء مغاربة ممن استضافت «أخبار اليوم» آراء بعضهم، فهم يتحدثون عنه في الشق المتعلق باستعمال آليات التشهير سلاحا كان قد لجأ إليه الرئيس الهارب قبل الرحيل، زين العابدين بنعلي، لكن التطور التكنولوجي حينها لم يسعفه بالشكل الذي صار به هذا السلاح أقوى في المغرب، وأكثر منه حدة بمصر. ربما هناك من ندم على مكتسبات دستور 2011، ورأى أنه كان هناك تسرع في التجاوب حينئذ مع سياق إقليمي بمنح ما لم يكن على بال، وربما ما حدث بعد عشر سنوات من انطلاق ربيع تونس، يجعل البعض يقول إن «بنعلي زرب وهرب» (تسرع في الهرب)، ولو صمد في مكانه لوفر عليهم هذه الدورة في حلقة يراها البعض مفرغة، لكنها،في الحقيقة، أحدثت تغيرات ليست بالبسيطة في البنية الذهنية، خاصة في أوساط الشباب، وهم الفئة الغالبة في البنية المجتمعية للمغرب. لكن، يبدو أن الانتقال التدريجي الذي يحلم به الساسي وصار محرجا منه، يوازيه انتقال آخر نكوصي.. انتقال بين مرحلتين؛ من زمن «بنعلي هرب» إلى زمن «بنعلي زرب وهرب».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي