تعيش الحرية في هذه الأرض السعيدة فترة محنة حقيقية لا ينكرها إلا جاهل أو متجاهل. ولا يمكن بأي حال أن نطبّع مع ممارسات مهما كانت تدعي الاحتكام إلى القانون والالتزام بمساطره، فيما يقبع في زنازين سجون المغرب أستاذ جامعي على مشارف سن التقاعد، هو المعطي منجب، وكوكبة من الصحافيين، والبقية الباقية من معتقلي حراك الريف ممن خرجوا يطالبون بمستشفى وجامعة وطريق…
لا يمكن أن يكون اقتياد هؤلاء جميعا إلى غياهب السجون، بملفات جلّها لا يقنع قريبا ولا بعيدا، مجرّد تطبيق لفصول القانون في قضايا «حق عام».
لكن، دعونا نسلّم تجاوزا بالسردية التي تكاد تفلح في بعض الأحيان في إقناع البعض، وأن الأمر لا يتعلّق بتجاوزات ممنهجة ولا بتراجع شامل، وأن الأمر يتعلّق بمجموعة من «الضاسرين» الذين «سخن عليهم راسهم» ويخدمون أجندات من هنا وهناك، ولا يمكن اعتبارهم قاعدة مادام المواطن المغربي العادي لم يعد يواجه الركلات و«التصرفيق» على يد ممثلي السلطة، كما كان عليه الأمر في عهود سابقة، ولا يواجه تعسفات مقصودة بشكل يومي. وحتى إذا تتعرّض لاعتداء هنا أو هناك، فسبل التظلم والتشكي متاحة ومفتوحة، من خطوط خاصة بالتبليغ عن الرشوة وهيئات للحكامة ومجالس دستورية..
هل الأمر بالفعل كذلك؟ لنتأمل الحالات التالية كي نعرف أن حرية المغاربة ليست بخير:
استيقظت مدينة تطوان، الأسبوع الماضي، على وقع نشر شريط يظهر فتاة عشرينية في أوضاع جنسية مخلة مع شخص لا تظهر ملامحه في هذا الشريط. تحرّكت السلطات بعد الانتشار الواسع للشريط وما أثاره من غضب واستياء في أوساط الرأي العام، وهذا عمل إيجابي وتفاعل محمود، لكن، ماذا كانت النتيجة؟
ما حصل هو أن الفتاة التي تظهر في الشريط، والتي هي بقوة القانون والمنطق ضحية لمن قام بنشر لقطات تتعلق بحياتها الخاصة دون إذنها ولا حتى علمها، تحوّلت إلى معتقلة بعدما جرى عرضها على أنظار النيابة العامة. لم يشفع لهذه الشابة أن هذا الشريط يعود إلى خمس سنوات خلت، وأن مصوّره ومسرّبه المحتمل، وهو شريك الشابة في اللقطات المصورة، غادر المغرب نحو أوربا، ما يؤكد احتمال وجود نية الإساءة والتشهير، وربما الانتقام لسبب أو لآخر، لكن عدالتنا الموقرة لم تجد من حل سوى متابعتها في حالة اعتقال. ورغم أنها كانت ضحية للفقر والتهميش، ثم ضحية استغلال واستدراج غادر من جانب شريكها، ثم ضحية تسريب وتشهير وإساءة، فإن ذلك كله لم يشفع لها أمام أنظار القضاء، فكان أول ما تقرر هو إيداعها السجن، بدل البحث عمن دمّر حياتها وحياة أسرتها، ولمَ لا مساعدتها نفسيا واجتماعيا. أليس من الممكن تحويل شبهة «الفساد» في هذه القضية إلى ملف فرعي قليل الأهمية تتابع فيه، وتدان إن توفرت العناصر القانونية، لكن بعد إنصافها في جريمة التشهير أولا؟ هل يعقل أن نستمر في العمل بمنطق غريب يعتبر اعتقال الناس في بعض الحالات «حماية» لهم من عنف وانتقام المجتمع؟ أفي 2021 تعجز الدولة عن حماية مواطنيها إلا بالزج بهم في السجون؟ أيحق لنا بعد ذلك أن نشكو الاكتظاظ في المؤسسات السجنية؟
قبل نحو ثلاث سنوات، فجّر بعض النشطاء المغاربة المتخصصين في رصد ما كان يعتبر مظاهر للتطبيع غير المعلن بين المغرب وإسرائيل، وجود مركز للتدريب العسكري في منطقة جبلية قرب خنيفرة، يقول صاحبه إنه خضع للتدريب على يد الإسرائيليين، وإنه يمارس أنشطة، منها تداريب على استخدام السلاح وأمور أخرى غير مشروعة. تحرّكت السلطات حينها بحزم وفعالية، وجرى اعتقال مؤسس المركز، وهو عبد القادر الإبراهيمي، الذي تقررت إحالته على مستشفى الرازي للطب النفسي بمدينة برشيد.
قبل نحو ثلاثة أشهر من الآن، عاد زميلنا ياسر المختوم لتفقد الملف ومعرفة مآله، ليقف، في تحقيق نشر في هذه الجريدة، على أن المتهم، وبعد شهر واحد من إيداعه المستشفى، أصبح موضوع مراسلة من مدير المستشفى إلى النيابة العامة، تقول إن الإبراهيمي لا يحتاج إلى أية رعاية نفسية، وأنه يجب أن يغادر المؤسسة الطبية. وبعد طعن النيابة العامة في هذا القرار، لم تنظر لجنة الصحة العقلية المختصة في هذه الحالات في الأمر إلا بعد أكثر من 15 شهرا، لتخلص إلى أن الإبراهيمي محتجز أصلا دون حكم قضائي. وبعد رسائل متكررة من إدارة المستشفى لإخلاء ذمتها من المسؤولية، لم تتوصل بأي جواب، ما يعني أن مواطنا مغربيا يمكن أن يفقد حريته دون حكم ولا سند قضائي، ولا يحدث شيء في «ملك الله».
ويوم الجمعة الماضي، فقط، فجّر زميلنا عبد الرحمان البصري قضية اعتقال ومحاكمة عاملة بسيطة في ضيعة لإنتاج البيض قرب مدينة بنجرير، إثر اتهامها بسرقة 16 بيضة يفترض أنها حجزت بحوزتها أثناء مغادرتها مقر العمل. ينطوي هذا الملف على معطى يبدو أنه، على أهميته، حرّف النقاش الذي أثارته القضية، وهو أن الشركة تعود لملكية برلماني، أي شخص له نفوذ سياسي يحتمل توظيفه في مواجهة عاملة بسيطة. هذا التخوف مشروع، بل وواجب كرد فعل تلقائي في مثل هذه الحالات، لكن صاحب الشركة يبقى بدوره مواطنا ومن حقه التشكي واللجوء إلى العدالة، والمساءلة ينبغي أن توجّه أكثر إلى مؤسسات إنفاذ القانون وتحقيق العدالة، سواء كان صاحب الشركة قد استغل نفوذه أم لا.
لم يعد مقبولا في القرن الـ21، ومغرب ما بعد الإنصاف والمصالحة ودستور 2011، أن تحتج سلطات إنفاذ القانون ببعض النصوص المبتورة والتأويلات غير المنطقية. يمكن هذا الطرف أو ذاك أن يدفع بتكييف القضية على أنها «خيانة للأمانة» أو تلبس بالسرقة، لكن المفروض أن القوانين والعدالة وأجهزة إنفاذ القانون وجدت لتحقيق الصالح العام وردع الإجرام، في الحدود التي تحقق المصلحة.
نحن في هذا الملف أمام متهمة بريئة بنص الدستور إلى أن تثبت إدانتها، حيث لم يكن هناك تلبس بمعناه القانوني، بل مجرد شكاية وادعاءات من جانب المشغل تعززها شهادات أشخاص خاضعين لسلطة المشتكي. ورغم كل دلك، وعلما أننا في وضعية الطوارئ الصحية واحتمالات شبه منعدمة لفرار المتهمة وعدم مثولها أمام المحكمة، فإنها تحاكم في حالة اعتقال.
لنفترض، جدلا، أن قوة خارقة تدخلت وقامت بـ«تهريب» المتهمة لتفلت من المحاكمة، ما هو الضرر الذي سينجم عن ذلك سواء للمشتكي أو للمجتمع؟ ألا يكفي حكم نهائي بالإدانة لتحقق العدالة إنصاف المشتكي وتمكينه من حجة الخطأ الجسيم لطرد العاملة دون تعويض وجعلها عبرة لبقية العاملين لديه، أم إن فرضية «التلبس» بحمل كيس من البيض تنطوي على تهديد لا نعلمه للنظام العام؟
إن ما انكسر في لحظة «ضبط» العاملة، كما تقول المحاضر المحالة على المحكمة، ليست البيضات الـ16 التي يفترض أنها كانت تحاول سرقتها، بل انكسر الحق المبدئي والأصلي في حرية كل مواطن مغربي. وأستسمح المؤرخ والأديب حسن أوريد في العودة مجددا إلى عنوان أحد كتبه، لأستلهم منه نسجا على منوال كتابه «مرآة الغرب المنكسرة»، أن بيضة الحرية هي المنكسرة اليوم، لأن الحرية بالفعل لم تعد بخير، وهناك استسهال خطير وغير مسبوق لعملية سلب الحرية من المغاربة، حتى دون إحالة على المحاكمة ولا تلبس، كما هو الحال مع زميلنا سليمان الريسوني.