عندما يكون هناك حقد متأصّل ودفين، واستهداف ممنهج وغير أصيل، على هيئة التعليم العالي، هيئة لها عُمق ورصيد تاريخي في التأطير والتوجيه، وتحصين السيادة الفكرية والأخلاقية، في سياق الحاجة إلى بناء الكفاءة الوطنية، وتعزيز المناعة المجتمعية، هيئة جامعة ومانعة و عالية بِتَضحيَات ومجهودات كلّ مكَوّناتها (طلبة/أساتذة/وموظفين) رغم التحديات المصطنعة، فإن أُولى الإرهاصات والتداعيات التي نَلمَسُها تكمن في العقدة السيكولوجية المتَجذِّرَة داخل البنيَة النفسية للحاقد على القطاع، والتي لا تظهر فقط في مُخرجات السياسة العامة التي أفرزتها عقلية الباغض علينا، أو في الأنظمة الإجرائية المؤطرة لوظائف وأدوات هذا القطاع أو ذاك، لكن هذه التجليّات تجاوَزَ مفعولها وضعية القطاع والفاعلين فيه، لِيتّضح لنا بالمكشوف أهداف الإستراتيجية التعليمية التي يُراد تنزيلها تدريجياً عبر مراحل، دون صدمات أو اصطدامات، عبر استنزاف الموارد المادية والبشرية، وصناعة الإكراهات الوظيفية، مع المساس بالسُّمعَة المهنية، من خلال استغلال حدث استثنائي معزول ومرفوض، وتوظيفه لإطلاق حملة إعلامية مسعورة تحت عناوين للتشهير ولتعميم الخطيئة/المصيبة، وإستعداء أسياد المهنة وأهل الدّار، ومحاولة إِفساد مكانتهم الجامعية وصورتهم المجتمعية.
كل هذا يحدث في زمن الجائحة، وتحت أنظار “كوفيد19 و أوميكرون الأفريقي” ؛ حدثٌ جعلت منه بعض الدوائر ظاهرة، في أفق تقويض و تحجيم نضالات القواعد في القطاع، وتكريس مقولة: “لا وجود لِشريف له الأهلية والأحقية في حماية الصفة والإلتزام بمقتضيات الوظيفة”، وبالتالي لا بد من أجرأة بنود التصميم المديري (عَفواً التّسميم المديري)، وتنزيل صفة الضبط الأخلاقي على المستخدم الجامعي: إنها واقعة “الجنس مقابل النقط”. إذا كانت هناك من إرادة حقيقية في مقاربة هذه القضايا، فينبغي للمساطر أن تشمل الجميع ،فَلطَالَما تحدّثَ الفاعلون في مجالات مختلفة، ومعهم أقلام إعلامية نزيهة متعددة، عن الجنس العالي في ديوان هنا وديوان هناك؛ وعن الجنس في الكتابة العامة هنا، والكتابة الخاصة هناك ؛وعن الجنس في بعض المصالح الإدارية، والجنس عن قُرب وبالتباعد؛ وعن الجنس في مقاربة الملفات والتوظيفات والتعيينات بقضاياها المتشابكة؛ والجنس ثم الجنس.. إن الجنس لأجناس وأنجاس.
نحن لا ندّعي أن المجتمع الأكاديمي مجتمع ملائكة؛ هو مجتمع كسائر المجتمعات القطاعية، التي قد تُصَنَّف قطاعات إقطاعية في تدبيرها للفساد بِحكَامَة جيدة؛ فهناك مجالات استراتيجية غارقة في بَحر الفساد والإفساد المُركَّب وبِمَرَاكِب آمنة في مَجْرَاها ومَرسَاها؛ فساد يشكِّل منظومة قائمة، ترعاها شبكة دائمة ونائمة على حقوق وكرامة منعدمة. نحن مع تفعيل المساطر والمقتضيات القانونية، لكن ليس بمنطق الإنتقائية القطاعية، وبحملة إعلامية شرسة، وبأصوات وأنياب مفتَرِسَة، مع محاولة يائسة لانتهاك مشاعر الأسياد والسيدات من الأساتذة الشرفاء. هنا نطرح سؤالا جوهريا حول درجة ومستوى الفساد المؤسساتي والأخلاقي، من طرف كبار المسؤولين، ومضمون المقالات والرسائل والشكاوى التي صاحبت وانتقدت السياسة التعليمية في تجربتها الكارثية السالفة، “أم أن لكلّ فاسد في دائرة الإفساد مِظلّة تَحمِيه!!”
إذا كانت هناك من جرأة وشجاعة أدبية، على مستوى تحمُّل المسؤولية السياسية على القطاع (إن لم نَقل معظم القطاعات)، ينبغي تفعيل التدقيق والتحقيق والإفتحاص من طرف المجلس الأعلى للحسابات، وتحريك المفتشية العامة للوزارة، للوقوف عند الخروقات والفساد المهيكل في تدبير مديريات القطاع، وعلى رأسها مديرية الموارد الأمنية ،وليست البشرية في التعليم الخالي الفاقد للحكمة وللحكامة، من خلال إسقاط مزاج المحكومة في المديرية بأوامر من “المعلومة”، في تدبير قضايا الموظفين من أساتذة وإداريين، والعبث بالمناصب والترقيات وبالتوظيفات والتعيينات على مستوى كل الأجناس، وبتعليمات من المعالي عنترة سابقاً وعبلة المعتبرة حالياً…
من هنا يبدأ التغيير ياسادَة، وبالنموذج الأخلاقي يا قادة، في انتظار عودة رجال الدولة الصغار، بعد الإستغفار أمام الوعد الكاذب بولوج مسؤولية تسيير إحدى المؤسسات من جديد، ليأتي بذالك التصديق قبل التصريح بالترشيح، دون حسيب أو رقيب، إلا ما كان إستجداءاً أمام عتبة دوائر لا علاقة لها بالقيادة والسيادة، إلا السعي من أجل البيع و الريع والاستفادة (إنه جنون عِشق الخشب نسبة إلى مرض جنون البقر).
صحيح أن يُعاد للأخلاق اعتبارها في كل القطاعات، وأن نسعى إلى بناء مجتمع القيم بِجَانب مجتمع المعرفة، لكن متى ستصبح الأخلاق وحسن السيرة، مؤشِّرا ومعيارا في تحمُّل المسؤولية على رأس القطاع والمصالح المركزية، والمديريات، والمؤسسات الجامعية، حتى لا يتم الركوب على حدث معزول في عُهدة القضاء، والقيام بخدش مشاعر وكرامة رجال ونساء التعليم العالي: إنه “حدث الباعة في انتظار الساعة”.
(عبد الكبير بلاوشو، أستاذ بجامعة محمد الخامس)