وقد كان من المقرر أن يتسلم الكاتب المغربي الجائزة يوم الخميس الماضي، إلا أن اسرائيل لم تمنحه الترخيص لدخول مدينة رام الله، التي احتضنت الإحتفال في إطار فعاليات مؤتمر " القدس هوية وثقافة" ، بالرغم من المجهودات الكبيرة، التي بذلتها السلطات الفلسطينية. وقد تم القاء كلمة لمحمد برادة خلال حفل التسليم، كما أن الجهة المنظمة أكدت ان تتويج الكاتب المغربي جاء تكريما لاسهاماته الثقافية والإبداعية المميزة من أجل القضية الفلسيطينة. للإشارة فإن محمد برادة متزوجة من ليلى شهيد مندوبة فلسطين لدى الإتحاد الآوربي
وفيما يلي كلمة محمد برادة التي القيت في حفل تسليم الجائزة.
ديـــمـــومـــــة الـــــثـــــــقــافــــة
الاحــتــفاء بـالثقافة والإبــداع،وتــكـريـمُ الـمـنـتجـيـن في هـذا الــمـضـمار، إنــمـا هو في الحقيقة اعتراف بزمنـيّة الـثقافة التي تـخـتـلف عـن زمــنـيـة السياسة وتـعـلـو عـلـيـها،لأنـها تـحـتـويها وتـُـدرجها في سياق أوسع يـتـيح الـتـأويـل التاريخي، واســتـدماجَ مـكونات الـهـُـوية ضـمـْن صـيـْرورةٍ لا تتـوقف إلاّ لـِـتــبدأ . وكـما قـيـل، نــحن نـسـكـُن ثـقـافـتـَـنـا ولــغـتــَـنـا، أكـثـر مـِنْ مـا نـسـكـُنُ جـغـرافية الـوطـن .
مـن هـنا،أجـد أن جـائـزة القدس للثـقافة هـي قبل كل شيء، تـأكـيد لـدور الـثقافة الفلسطـيـنية والعـربية فـــــي مـقاومة الاحـتـلال والـتـشـريد والـعـسـف الـيومـي مـنذ نـكبة 1948: النكبة التي "تـوّجتْ" إسـرائيل بوصفها الدولة الاستعمارية الوحيــدة الباقية في عـالـمـنا،على امـتـداد أكثر من سـتـيـن سنة .وكـان في مـُـقـدّم مـخـطـطات حكومات تـل أبـيــــب،كما تعلمـون، تــهـويـــد شـعـب فـلسطـين من خلال مـشــاريع مثل "روابـط الـقــُـرى" الهادفة إلى اسـتـبـدال الـعـبـرية باللغة الــعـربية،وطـمــس مـسالك الثقافة العربية في ذاكـرة الأجيال الفـلسطـيـنـية الصـاعدة … لـكن الثقافة بـمعـناها العـميق هي التي أحبطتْ مـساعي الصـهـيـونية وقــادتْ خـطوات الـمقاومة على دروب مـلاحـمهـا المـتـجددة من عـز الدين الـقـسـّام إلى أجـيال الانـتفاضة.
اسـتـطاعت الثقافة الـفلسـطيـنـية،مـنذ القرن التاسع عشـر أن تـُـكــوّن حلقة بارزة في نـسيج الثقافة العــربـيـة الباحثة عـن طـريق الـنـهضة والـتـجـدُّد ،فـأضحت صـوتــا مـتـمـيـزا ورافـدا لـه خصـوصيته على رغـم محـنة الاستـعمار الـبـريطاني،ومـأســاة الاحـتلال الإسـرائيلي. اسـتـطاعت الثـقافة الفلسطينية أن تـحـفـر أخـاديد عميقة في سـجــلّ الثقافة العربية الـحديـثة،تـمـتــدّ مــن روحي الـخالــدي الناقد الـمـبـشـر بالتـجـديد الـرومـانسي منذ مطلـــع الـقرن الـعـشـرين،إلى الـراحل إدوارد ســعيد أحـد أهـم مـُنــظـّــري أدب مـا بـعد الـكولونـيالية في النـقد الأدبي العالمي. وفي كـل مـجالات التـعـبـيـر عن النفس والـوجدان،أدبــا وفـنـا تشـكـيـليا وســيـنـما، أنـجـبـت الـثـقافة الفـلسطينية مـبـدعـيـن بـارزيـن،بـعضهم يـتـوفــّـر على أبـعـاد كـونـية ويـنـدرج ضـمـْن الـمـقـايـيــس العالمية التي تعطي الأســبقية لــلأثــر الإبـداعي في وصــفِـه تـعـبــيـرا عن تـجـربة إنسانية مُـتـدثــّرة شــكلا جماليـا يتخطـــــى الـحدود،ويـكــتـسـب قـيـمتـه من مـقـوّمــاته الفـنية والـدلالية،لا مـن نـســَـق إيـديولوجي أو دعـاوَى سياسيــة.
ولا أغـــالي إذا قـلتُ إن الآصــرة الـوثـيـقة التي تــربط الـمـغـرب بـفلسطـيـن، تــعـود في جـزء كـبيــر منها إلى دور الثقافة الـفلسـطينية الحديـثة وسُـفـرائها من الشعراء والكتاب والرسامين والمخرجين السـيـنمائـيـيـن. صحيح أن علائــق التاريخ بـينـنـا قـديمة وملموسة عـبـر حجّ المغاربة إلى القدس والـتـوطـّـنِ بـها، والالـتحاق بمعاهدها، وأيـضا وأساسا بـعد النكبة والـتـشـريـد،لــكـن مــسـار حـيـاتي وما عـشـتـُـه عـن قـُـرْب، يجـعـلــني أمـيـل إلى أن الـثقافة الـفلسـطـينية الحديثة،بـتـجـلـياتهـا في الداخـل والـمـنـفـى، بـجـرأتــهاوطــلائـعـيـتها، هــي التي وطــدتْ الـوشائج والـتــآخي بيـن المغرب وفلسطين ، مـن خلال تـأثـيـر إبـداعات أسماء مثل فـدوى طوقان وإمـيـل حــبـيـبي ومحمود درويش وسميح القاسم وسـحـر خليفة وأحمد دحبور ولـيانة بدر ويـحـيى يـخـلف، وغـيـرهم كـثــْر،زاروا المغرب والتــقـوا الـقـراء وطـُلاب الجامعات،وتـمـازجـوا بـتــيـار تجـديد الثقافة المغربية، المتطلع إلى إعــادة صــوْغ أســئلة الـثقافة العربية لـتـكون مـِـدمــاكا لـتــشــيــيـد مـجـتـمـع الحداثة والـديمقراطية . ولا أريـد أن أغـْـمـَـط َ المبـدعيـن الفلسطـيـنـيــين الشباب حـقـهم،لأنهم اسـتــطـاعوا،على رغم قـساوة الـظـروف،أن يواكبوا الإبـداع العربي وأن يـُـثــروه بـإنـتـاجـاتهم التي تـأخـذ على الــعـاتق، جـعـلَ الأدب وسـيـلة مـختلـفة ونــوعـية لــقـوْلِ الـحقيقة ،مـنـظـورا إليها من زاوية فـنـيـة تـلامـس وجـدان الناس حـيـث مـا وُجـدوا…
على ضـوء ذلك،أجـد أن تخـصيص جـائزة للـثقافة الفلسـطيـنيــة والـعـربية،تـحـمل اسم القـدس،مــدينة الـرموز الـعـريقة في مـضـمار الـتـعـدديـة الـخصـبة،وروحــانـيــة الـسلام،إنــمـا هــو تـأكـيـد على انـفــتــاح الثقافة والإبداع الــعـربـيـيْــن عـلى عـــمــق التـاريخ وعـلى ســؤال الـنـهوض والــحداثـة. مـن ثـم،أرى أن الـقـدس في ســيـاق رمـزية هذه الجائـزة،تــأخذ دلالــة مـزدوجــة : القـطيعة مـع نـظام احـتلالي يـروم فـصـلها عـن أبــعادها التـاريخية الـمـتـعددة،والاسـتـمـرار داخـل سـيــرورة بـنــاء وتـصـحيح الثـقافة العربية الـهادفــــــة إلى تـصـفية الاسـتـبـداد،وتـحـرير الأرض والإنــسان،وَصَـوْن حـقـوق الـفـرد وحـريـتــه في الـرأي والاعــتــقـاد .
مـن ثــــمّ،تـجـد الـثـقافة الـعـربية الـحديـثة نـفسها،على اخـتلاف الـمـسالك الــقــُــطـْـرية،أمــام أفـق واحـد للــخلاص والـنـهوض،وهــو الأفــق الـذي يــرفض مــا هــو قــائم وَ مـفـروض،ويـسـعى إلى مـا يَكـُون ُتـحـقـيقـُه مُــمْـكنا وضروريا،عـلى نـحـو مـا تـنــادي بـه جـموع الشــباب الثائرة عــبـْـر أرجاء المجتمعات الـعربية، وعلى نـَحـْـو مــا حـلـُمَـتْ بــه قــوّى الإبـداع ورسمت مَـلامـحـَه مــنذ هـزيـمة جـيـوش الأنـظمة سنة 1967 . ذلـــك أن ديـْمـومــة الـثقافة والإبــداع نــافـذة وفــاعــلة،لا تــشــلــُّـها حـساباتُ الـمـُـدجـَّـنــيـن ولا تخطيطاتُ الاستـــعـمار الـمـتـوحـشة .