كان «ميشيل فوكو» يقول إن مسألة الأنوار هي مسألة انتماء إلى «نحن» معين. وعندما تقولين: «نحن، أبناء الأنوار»، فما تقصدين بذلك؟
هذا يعني العالم. إذ من مضامين الأنوار إدماج فئات «المنطقة الثانية» في الإنسانية. انظروا إلى «كوندورسيه». لقد أعاد إدماج النساء والسود واليهود في الإنسانية برمتها. إن الأنوار هي إظهار أن جميع الناس متساوون، وهي الفكرة التي مافتئت أكرر: لننظر إلى ما يوحدنا، قبل أن ننظر إلى ما يفرقنا.
يمر هذا العمل الرامي إلى إعادة الإدماج عبر الأدب خاصة، حيث تكتبين في كتابك «إميلي، إميلي. طموح النساء في القرن الثامن عشر» (الصادر عن فلاماريون سنة 1983): «وحدهم مؤرخو الأدب يحفظون الأسماء». إذ نجد هذه الفكرة لدى المؤرخة «ميشيل بيرو»، حيث تلاحظ في كتابها «النساء أو صمت التاريخ» (فلاماريون، 1998)، أن «النساء ظل خفيف في مسرح الذاكرة»، وأنه يمكن أن نعثر على كلامهن في الأدب.
إنها محقة. فالنساء قارة سوداء في التاريخ. لقد ظللت أبحث عن مراسلات نساء القرن الثامن عشر، لكنني لا أجدها، أو لنقل إنها قليلة، مما أصابني بحزن شديد. تعلمون أننا احتفظنا بكتابات «مدام دو شاتلي» لأنها كانت عشيقة «فولتير»… فلو لم تكن عشيقة رجل مشهور، لما عرفنا من هي اليوم، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى العديد من النساء اللواتي كن عالمات. إذ عند وفاة النساء، كانت مراسلاتهن تحرق بالتأكيد، أو مزعجة، أو غير مهمة، وهو فسح المجال أمام الاعتقاد أننا لن نبعثهن أبدا. فأولئك اللواتي نشرن كتاباتهن نجون، لكن لا يمكن أن نقول بالتأكيد من هن، خشية الاطلاع على حياتهن الشخصية.
في كتاب حواري مع «إليزابيث رودينيسكو»، يؤكد الفيلسوف «جاك دريدا» على أن الوفاء لإرث ما يقتضي أولا إعادة التأكيد عليه، ثم إعادة إطلاقه بطريقة مغايرة، وإلا لسنا أوفياء له. ألا ينطبق هذا الأمر على إرث الأنوار؟
لم أومن أبدا أن فلسفة بنيت منذ قرنين ونصف، يمكنها أن تجيب عن جميع أسئلة مجتمعاتنا، ولا أتصور فكرة دوغمائية عن الأنوار. لابد بالتأكيد من النظر إلى النواقص، وأحيانا إلى الأخطاء. مثلا، تساءلت حول فشل الإيمان المطلق بالتربية. لست حسيرة النظر إلى درجة عدم الاعتراف بوجود فرويد. لكن، عندما أقرأ فرويد، أب اللاشعور، الذي قد ينظر إليه باعتباره معارضا لسيادة العقل، أعترف فيه برجل أنواري كبير. لابد إذن، من فتح إرث الأنوار، لا تصفيته.
لكن تيارا فكريا بأكمله يؤكد على مكامن الغموض في الأنوار، حيث يلاحظ المؤرخ الكبير «دانييل روش»، رغم كونه صديق الأنوار، أن هذه الأخيرة «تنتهي إلى أزمة أخلاقية» مع مآسي الحداثة وكوارث الدولة الشمولية. ألا يشكل هذا الرابط بين الأنوار ومآسي القرن العشرين نقطة تعالجينها بطريقة سطحية؟
لا. الجواب بالنفي. إنها خيانية، حيث لا يمكن أن نثقل كاهل فلسفة الأنوار بهذه المسؤولية. لابد من العودة إلى الجوهر. فعندما نقرأ الأنوار، نحاول أن نناضل من أجل تنمية العقل. ثم، يتخذ ذلك ذريعة لخلق عالم شيطاني، وهو أمر مختلف. إذ بفضل الأنوار، امتلكنا فلسفة كونية هي شرط من شروط السلام بين الرجال والنساء…
يعتبر البعض أن هذه الكونية تتموقع تاريخيا وجغرافيا. ويلاحظون مثلا أن الشحنة الكونية ضد الحجاب الإسلامي يكشف استثناء فرنسيا.
لا. تطرح المسألة اليوم بالنسبة إلى بريطانيا والكيبيك. بعبارة أخرى، تقول البلدان التي كانت منفتحة على الممارسات المجتمعية إنه يجب أن تكون هناك حدود. أعتقد أننا ندافع عن الكوني، لأن إخفاء الوجه عن الآخرين يشكل مأزقا. إذ يسلم الكوني بأن التشابهات بيننا هي أهم من الاختلافات. لكن، ما الذي تقوم به صاحبة البرقع؟ إنها تستعيد الفصل بين الطاهر والنجس، وتلتذ بالنظر إليك، لكنها لا تسمح لك بالنظر إليها، حيث يشكل ذلك قطيعة في المساواة والأخوة.
أنت أيضا لم تنتقدي دائما الحق في الاختلاف. في السبعينيات، نشرت مقالة معنونة بـ«من أجل الحق في الاختلاف». ما الذي وقع منذ ذلك الحين؟
أدركت خطئي الفادح. كنت شابة. ففي روح سنة 1968، كان الحق في الاختلاف غنى، وحرية إضافية. لكني أدركت، تدريجيا، منتهى هذا الحق، الذي يكاد يكون أول الحقوق، وأدركت أن الباب انفتح أمام الطائفية، حيث ينتهي من كانوا ينتمون إلى دين أو جماعة إلى القول: نريد حقوق الجميع، لكننا فضلا عن ذلك، نريد حقوقا خاصة. هنا، لا تستقيم الأمور بتاتا. فإذا استشهدت بمثال اللائكية، فالقانون هنا يفيد أن بإمكان الديانات جميعها التعبير عن ذاتها، لكن في المقابل لا تستطيع أن تطالب الجمهورية بأشياء تتعارض مع مبادئها. إذ تحمي الجمهورية كل الديانات، لكنها في المقابل لا تبتز قوانينها. إذ الفكرة هي أن لنا حقوق الجميع، فضلا عن حقوق خاصة. وهذا أمر غير منسجم.