عزيزي إدوارد
أبدأ من الأخير كما نقول، فأنا أعلم أنك لا تحب المقدمات، كما أنك مستعجل دائما، لذا، لنذهب إلى الموضوع بشكل مباشر، على الرغم من أن الموضوع مُحيّر وغامض. أريد أن أعترف أن الحوار معك تعترضه مشكلة كبرى. فأنا أعرف أن الأموات يستطيعون مخاطبتنا، لكننا لا نعرف كيف يستطيع الأحياء التحاور مع الموتى (…)
اعتقدت دائما، وهذا ما ناقشته معك في إحدى لقاءاتنا النيويوركية، أن الأدب هو المكان الوحيد الذي يستطيع الأحياء والأموات التواصل من خلاله. لذا، هناك نوع من التناقض العميق بين الأدب والدين. هذا التناقض عبر عن نفسه بشكل واضح في الشعر العربي الكلاسيكي.
موضوعي اليوم، ليس هذا التناقض، الذي يتخذ، كما نلاحظ، أبعادا جديدة في حياتنا العربية، موضوعي هو الحقل المشترك حيث يستطيع الأحياء والموتى التواصل والحوار من خلاله.
من الواضح أن الموتى يستطيعون مخاطبتنا متى نشاء، عندما أشتاق إليك أذهب إلى أحد كتبك وأشعر كيف لا يزال حضورك حاضرا، وكيف تخاطبنا كلماتك وتفتح أمامنا الطريق إلى العقلانية والفكر النقدي.
أشعر في هذه اللحظات أنك الغائب- الحاضر. اعتقد الإسرائيليون أن ذكاءهم الكولونيالي قادهم إلى صك عبارة الغائب- الحاضر، كي يسموا بها الفلسطينيين الذين حولوهم إلى غرباء في وطنهم. لكنهم لم يفهموا أن هذه التسمية سوف تجعل من الفلسطينيين يهود اليهود، حيث تتحول أنت أيها المثقف الفلسطيني إلى «المثقف اليهودي الأخير»، بحسب تعبيرك، وتصير أيضا أحد المنظرين الرئيسيين للمنفى.
كيف أخاطبك وأستمع إلى ملاحظاتك؟
لن أجد جوابا عن هذا السؤال إلا إذا افترضت أن موتك هو استعارة للحياة. وبهذا المعنى أريد أن أناقش معك مسألتين مرتبطتين بنظريتك حول المنفى وصور المثقف.
المسألتان متداخلتان في تطور نظريتك، فأنت أعطيت المنفى مكانة خاصة في الحياة الثقافية، وجعلت من مثقفين منفيين هما أدورنو وفيورباخ نموذجا.
تحليلك للمنفى جعل منك الصوت الجديد للمنفى الوجودي، وبحسب المؤرخ الإسرائيلي أمنون راز كراكوتسين، فإن المثقفين الفلسطينيين صاروا ورثاء فكرة المنفى، بعدما قامت المؤسسة الإسرائيلية بتدمير مفهوم «الغالوت» أو المنفى في الثقافة اليهودية.
سؤالي هو عن نوع جديد من المنفى يسود اليوم في العالم العربي، ويحتاج إلى نقاش جديد، افتراضي هو أن مثقف المشرق العربي صار منفيا في وطنه.
كيف أجرؤ على قول هذا وسط الربيع العربي، وبعد إسقاط النظامين الاستبداديين في مصر وتونس؟
إنها مفارقة أليس كذلك؟ ولكن هذا هو شعورنا اليوم ونحن نرى كيف اتخذت العملية الثورية أشكالا عنيفة، خصوصا مع سفك الدماء المستمر في سوريا.
هل قَدَرنا أن نختار بين شكلين من الاستبداد: العسكري والأصولي؟ أم هو خطؤنا نحن؟
أغلب الظن أنه خطؤنا، ولكن الاعتراف بالخطإ لا يحل المشكلة. يجب أن يدفعنا هذا إلى تحليل بنية حياتنا الثقافية وأن نبدأ من نقد التحالف بين العسكريتاريا وأجزاء من النخب المثقفة تحت راية مواجهة الإسلاميين. لقد قاد هذا إلى عزلة المثقفين العلمانيين الذي انعكس تضاؤلا في حجم تأثيرهم في الانتفاضات العربية (…).
من المؤسف أن نرى أن المنفى الداخلي في بلاد الشام صار هو الشكل الأكبر للمنفى. هنا والآن في بيروت ودمشق والناصرة والقدس يعيش المثقفون منافيهم داخل أوطانهم، وعليهم أن يجدوا طريقا لبناء جسر العبور إلى الحرية والتحرير.
مثقفك يا صديقي كان مزيجا من مثقف غرامشي العضوي ومثقف جوليان بندا غير المعني بالأهداف العملية. مزجك بين المفهومين رسم الملامح الأولى لمثقف القرن الحادي والعشرين، عبر مواجهة أزمة مثقف ما بعد الحداثة بالتزام شخصي وعام، وبرؤية مدهشة لمعنى الدور الأخلاقي للمثقف، الذي يشكل مرآة الضمير الإنساني.
سؤالي أيها الصديق العزيز ليس عن المفهوم العام للمثقف كما صغته، والذي يمكن أن يشتمل على تجربة المنفى الداخلي التي حدثتك عنها، لكنه سؤال العلاقة بين ولادة المثقف الجديد وهذا التاريخ العربي الذي يتفتح فينا بالوحل والدم.
كيف نصنع من منفانا الداخلي، طريقا إلى أفق الكرامة والحرية والتحرير؟
وفي النهاية أود أن اقول لك إننا لم نعد على استعداد لاتباع نصيحتك في أن على المثقف أن يقول الصدق والحقيقة للسلطة. هذا هو الدرس الذي تعلمناه من الرحلة الثقافية الطويلة التي بدأت مع الطهطاوي. الحوار أو الكلام مع أو إلى سلطات استبدادية وطائفية وعنصرية ومافيوية لن يقود إلا إلى مهانة الثقافة(…).