فالواضح أن الإرهاب يتجدد وينهض، كما تنهض العنقاء من الرماد، وأن مواجهته بالقوة العسكرية، على أهميتها، لا تُجدي إذا لم يُعالج في أصوله ومصادره، وإذا لم تتكاتف الإرادات والجهود، وتتغلب على الحسابات الذاتية الصغيرة، والانخراط بوعي في فعل مشترك، يعتبر الأمن الجماعي أولوية الأولويات، وضرورة وجود، قبل أن يكون مطمحاً أو مطلباً فرديا.
لفت انتباهي رأيُ باحث صديق، على هامش ندوة نُظمت نهاية الأسبوع الماضي في نواكشوط حول «الأمن في دول الساحل والصحراء»، مفاده أن الفكرة المغاربية في حاجة إلى إعادة تأسيس، وأن مفهوم المغرب الكبير الذي أحيته الحركات الوطنية واستثمرته في مقاومة الاستعمار، أغفل عمقه الجنوبي، وظل منشداً إلى دائرته الضيقة، أي المغرب العميق [ المغرب، الجزائر، تونس]، في بعديه الأوروبي والمشرقي، وقلّما انتبه إلى عمقه الجنوبي. وقد استفاض هذا الصديق في التدليل على استراتيجية هذا العمق بالتأكيد على أن أكبر الدول والإمبراطوريات التي شهدها المغرب انحدرت من الجنوب، ليخلص إلى أن بلاد المغرب معنية بدرجة أساسية بما يجري في الساحل والصحراء، بل ومطالبة بصياغة رؤية مشتركة، فعالة وناجعة، لمواجهة الخطر القادم من هذا العمق الجغرافي المهم والخطير بالنسبة إلى حاضر المغرب الكبير ومستقبله.
في مقاربة هذا الصديق، الكثير من التدقيقات والتفاصيل، وكأي مجهود فكري بشري يحتمل بطبيعته القبول والاستحسان، والاعتراض والاختلاف. بيد أن قوة هذا الرأي تكمن في أمرين اثنين. يتعلق الأول بالقصور الذي طال مفهوم المغرب الكبير في الخطاب الوطني، ومن ثمة دعوته إلى توسيعه ليحصِن عمقَه الجنوبي. في حين يخص الثاني تنبيهه إلى خطورة أن تستمر بلاد المغرب متنافرةً وغير موحّدة في التعاطي الجماعي مع ما يجري في الساحل والصحراء. والحقيقة أن واقع الأحداث يُقنعنا بضعف الأداء المغاربي الجماعي حُيال الأزمة في مالي والساحل والصحراء عموما. إذ على الرغم من تكوّن معطى جيواستراتيجي جديد في أعقاب سقوط النظام الليبي عام 2012، واندلاع الأزمة في مالي سنة 2013، فإن الدبلوماسية المغاربية لم تستثمر هذا السياق، والذي يعتبر في نظره فرصة سانحة لوعي خطورة الظرفية الجديدة، والتهديدات الناجمة عنها، لصياغة رؤية مشتركة لمواجهة التهديدات المحتملة على الأمن المغاربي الجماعي..، بل ما لوحظ أن كل بلد جنحَ إلى البحث عن مسالك متناغمة مع تقديراته السياسية الخاصة.
فهكذا، سعت الدبلوماسية الجزائرية إلى التضييق على الحضور المغربي، وتهميش دوره في ما يجري في منطقة الساحل والصحراء، باستثمار نفوذها المتزايد في المنطقة منذ اندلاع أزمة الطوارق عام 1990، علاوة على حرصها على أن يكون لها دور ريادي في مجمل الحلول المُصاغة لإدارة أزمات دول الساحل والصحراء، سواء تعلق الأمر باتفاقيات السلام بين المتمردين في الساحل ومالي والحكومات المتعاقبة ما بين 1995 و2005، أو في ما يخص المبادرة بخلق إطار جماعي مشترك لما يسمى دول الطوق، أي مالي، الجزائر، النيجر، وموريتانيا. ناهيك عن احتكارها جمع المعلومات وتوثيقها داخل ترابها، حين أحدثت في إطار الاتحاد الإفريقي «المركز الإفريقي للدراسات والأبحاث حول الإرهاب» منذ عام 2004. وبالموازاة، نلاحظ أن المغرب اعتمد مبادرات ليكون شريكاً في صنع السلام في هذه المنطقة، سواء من خلال استثمار وضعه المتقدم في الاتحاد الأوروبي، أو عبر رئاسته مجلس الأمن سنة 2012، أو بتوسيع حواره وتنسيقه مع شركائه من قبيل فرنسا واسبانيا. أما باقي البلاد المغاربية، فقد بدت إما منشغلة بأولويات أكبر من أولوية الأمن في منطقة الساحل، كما هو حال تونس وليبيا اللتان دخلتا مسارا سياسيا انتقاليا جديدا لا تبدو معالمه واضحة بما يكفي، أو معنية، بحكم الجوار الجغرافي، لكن تعوزها الوسائل والإمكانيات، ويضعفها التخوف من المعارضات التي تتزايد في الداخل، فتعصف باستقرارها الهشّ أصلا، كما هو واقع موريتانيا.
إن الحظر كبير وكبير جدا في كل هذا الشريط الممتد على آلاف الأميال، الذي أصبح موسوما بـ»الساحل والصحراء».. والرهانات الناظِمة لمواقف الفاعلين الدوليين والإقليميين، وهم كثر، متنوعة ومتعددة، ومنها ما هو ظاهر، وما خفي منها أعظم. لذلك، تبدو بلاد المغرب، الطرف الأكثر ترشحاً لأن تعاني من مخاطره، إذا لم تُبادر إلى جعل أمن الساحل والصحراء جزءا لا يتجزأ من أمنها الداخلي والجهوي.