لكن لبنان الرسمي لا يعترف بوجود مشكلة لاجئين سوريين، فاق عددهم مليون نسمة، وهذه مسألة معقدة ليس الآن مجال الخوض فيها، لأنها تفتح أبواب جحيم لبناني معرّض للانفجار في أي لحظة.
قلت إنني كنت أتمنى الذهاب إلى مخيم لاجئين سوريين لا وجود له، ليس لأنني أريد مزج الأشياء ببعضها البعض، فأنا أعتقد أن الأدب ليس مجرد مرآة للواقع، فهو لا يعبر عن عناصر الواقع المختلفة، إلا لأنه مرآة الروح الإنساني، أي مرآة الأسئلة، وهي مرآة وُلدت مُتشظية في وحل التاريخ، وحماقاته وآلامه.
بل لأنني أعتقد أن بيت الكتّاب لا يقوم إلا في فضاء بلا حدود، إنه بيت بلا نوافذ أو أبواب، بيت لا سقف له سوى الكلمات. لذا فهو لا يشبه اليوم سوى بيوت السوريين المهدّمة، وأرواحهم الهائمة، وحلمهم الديموقراطي الذي حوّله النظام الاستبدادي إلى كابوس موت وقهر وعذاب.
كان بإمكاننا أيضا أن نلتقي في مخيم للاجئين الفلسطينيين في بيروت، لكن ظروف المخيمات الصعبة، وحصارها الطويل الذي جاء بعد المذابح الوحشية التي تعرض لها بعضها، يجعل أيضا من المخيم الفلسطيني مكانا مستحيلا. غير أن قربنا من هذه المخيمات يجعلنا نشعر بدبيب الألم الذي ينبعث من نكبة مستمرة، بدأت فصولها عام 1948، وتستمر اليوم في بيوت تُهدم كل يوم في فلسطين، واحتلال صار مرضا إسرائيليا يبدو أن لا شفاء منه (…)
بيروت تدعوكم إلى، بيت يعيش الدمار على إيقاع مأساتين، مأساة المشرق العربي مع الاستبداد الذي أنتج هذا الألم السوري الكبير، ومأساته مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يريد تحويل الأساطير إلى تاريخ مجبول بدم الضحية الفلسطينية.
حكايتنا مع الاستبداد طويلة ومعقدة، فلقد نجحت الأنظمة العسكرية-المافيوية في تحطيم المجتمع، طوال أكثر من أربعة عقود، لذا جاءت الانتفاضات الشعبية العربية عفوية وبلا أطر تنظيمية، وهذا يفسر المسارات المعقدة التي تتخذها الثورات في بلادنا. فالذي كان ينتظر بزوغ فجر الديموقراطية بين ليلة وضحاها أصيب بخيبة أمل مريرة، والذي اعتقد أن الغرب الكولونيالي سوف يهرع لنجدة الشعوب دفاعا عن القيم الديموقراطية، نسي أو تناسى أن الماضي الكولونيالي لم يمض، وأن القيم في السياسة الدولية ليست سوى غطاء للهيمنة.
بالطبع، هذا لا يبرر إشارات الفشل في قيادة عملية التغيير التي تبدو واضحة على النخب الديموقراطية العربية، ففي النهاية هذه مسؤوليتها وعليها أن تستنبط أشكالا نضالية جديدة، قبل أن يغرق التغيير في ظلام أشكال استبدادية جديدة.
أما حكايتنا مع الاحتلال الإسرائيلي، فإنها تلخيص لوهم تسوية مع مشروع لا يزال قيد الإنجاز. فالمشروع الصهيوني استئصالي في جوهره، نجح في تقديم قراءته لاتفاق أوسلو، بوصفه هدنة بين مرحلتين من النكبة، وتابع مشروعه الاستيطاني في الأرض الفلسطينية، بحيث صار شعار الدولتين غطاء لاستمرار الاحتلال، عبر تدجين الفلسطينيين ووضعهم في الأقفاص.
وهذا لا يعني سوى أن الخراب سوف يستمر في فلسطين ومحيطها، إلى أن يتم تعديل ميزان القوى بشكل جذري، وهذه مسألة دونها الكثير من الأهوال وسفك الدماء.
إلى جانب هاتين المأساتين اللتين تحيطان بنا وتنغرسان عميقا في حياتنا ووجداننا، إلى درجة دفعنا إلى حافة الحرب الأهلية، فإن مدينتنا تعيش في منطقة تأخذ حكاية الهوية إلى نهاياتها البائسة.
وهنا يكمن سؤال كبير يلف العالم بأسره، لكنه يتخذ في منطقتنا شكله الأكثر صراحة ووضوحاً. ففي زمن ما بعد الحداثة، وبعد السقوط الكبير للديكتاتورية السوفياتية، تحولت مسألة الهوية وسياساتها إلى الغطاء الذي يحجب هيمنة إله السوق على العالم. هذا الإله الجديد شرس وبلا رحمة، أطاح بكل القيم الأخلاقية، ليستبدلها برأسمالية متوحشة لا هدف لها سوى مراكمة الثروة.
في ظل هذا الإله احتلت سياسة الهوية مكانها في الخطاب السياسي، وتفاقمت الهوة بين الطبقات، وتحولت الشعوب الفقيرة إلى كتل من المتسولين والباحثين عن هجرة على سفن الموت.
سياسات الهوية التي تنذر بانبعاث التيارات القومية الشوفينية في أوروبا، وتنامي الخواف من الإسلام، أو الإسلاموفوبيا بوصفه شكلا جديدا من اللاسامية، تتخذ في منطقتنا شكلها الأكثر عنفا، عبر أصوليات متناحرة، تقوم بتمزيق النسيج الاجتماعي، وتدخلنا في أنفاق حروب مرعبة.
في المدينة التي تعيش على فوهة بركان هذه المآسي، والتي سبق لها أن دفعت غاليا ثمن الحروب وحماقات التاريخ، نؤسس اليوم بيتا للكتّاب، مؤهلا لبناء وعي جديد بمعنى الكتابة بوصفها إطارا للإبداع، وأرضا لمواجهة الألم بألم الكلمات، ومكانا للحوار مع الآخر الذي يسكن في أعماق الذات.
فأهلا بكم في بيروت.