الذين كتبوا عن جينيالوجيا الذات الراغبة، وخبروا بعمق حدود وأسقف ومنعطفات الجنسانية، وفّرُوا على مجتمعاتهم كثيرا من الوقت وكثيرا من الجهد لبناء الفرد السوي المتصالح مع جسده. وفي مقابل هذا الجهد، يعرض مشهدنا المغربي ثقافة وجع ومحمول ألم لا حدود لهما إذ نتيه في باب الخصومة مع الجسد أو في معرض الانحياز للروح أو تعفير الروح بخطاب الجسد. لا مجال قط، لمصالحة حقيقية يستعيد الجسد فيها روحه كاملة وتكتشف الروح أقاليم الجسد خارج لغة السيف وخطاب النار حتى أننا حولنا المغاربة إلى معتقلين في أجسادهم.
جنسانيتنا عليلة مأزومة بخطابها الذي لم يفلح في تلمس طريق لا يكون فيه الإنسان هو الخاسر الأكبر.
وطريقتنا في الهروب من أسئلة الجنسانية هي تدليس معرفي خطير يروم مهادنة سلطة اجتماعية وأخلاقية لا تستند إلى مرجعية علمية رصينة. ولنتذكر هنا كلام ميشال فوكو الذي اعتبر الجنس رهانا لإنتاج الحقيقة، فالجنس لم يكن قط، اعتبارا حسيا أو تأرجحا بين الخطإ والصواب وبين القانون والحظر.
لقد حركت الحكومة مشروعها المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء مستندة إلى أنه في مغرب الحداثة اليوم تتنفس عقيدة القتل، وحيثما تولي وجهك، تداهمك من حيث لا تدري، ترسانة من الأسلحة التي تشهر في وجه كل امرأة بجمل تمتحُّ من لغة عسكرية متشنجة قاسية لمقاتلين أشاوس يشحذون كلماتهم بسكاكين الجزارين. والمرأة بلغتهم هي أرطال من اللحم. وفي أحسن الأحوال يستنجدون بأسواق الخضر أو بحديقة الحيوانات ليعبروا عن رغبتهم في الصيد، مشكلين تلك الشريحة العريضة من الصيادين، الذين يجوبون الساحات والشوارع ويحاصرون الدروب وأعمدة الكهرباء، ناصبين شباكهم لتاءات أو لأرطال لحم أو لكيس قمح سيقدمونه لمطحنة السرير.
غير أنه وقبل أن تغامر الحكومة في الدفع بمشروع يستفتي علاقتنا بالجسد في إحدى واجهاته الأكثر احتداما وصدامية، وجب عليها أن تقاربه ليس فقط، من زاوية زجرية عقابية، بل من خلال التفكير في مسار تشكيل وإنتاج حقيقة الجنس. مستحضرة تاريخ الصين واليابان والهند وروما والمجتمعات الأمازيغية والعربية والإسلامية التي شكلت تاريخها الإيروسي بصور متداخلة، لكنها مسؤولة بشكل ما عن صناعة معنى الجنس ومحموله في مساحة يتداخل فيها تأثيران أحدهما يمتح قوته من منبع شرقي أصيل يتمثل في فن إيروسي والثاني ذي الملمح الغربي ينهل من علم الجنس.
هذه القراءة الواعية تقارب الموضوع من باب معرفي مسؤول، يفكر مستحضرا أن الجنس هو بالأساس حاضر في اللاوعي تلك المساحة التي لا تعترف أصلا بالقانون. لذلك، فكل بحث هنا ينبغي أن يكون سؤالا ليس فقط، عن حقيقة الجنس، بل عن الحقيقة فيه. ثمة جسد محاط بثقافة احتفائية مدعومة بسلطة، وثمة جسد مهان محتقر، وهنا سنفهم كيف أنه في التاريخ الأوربي ولزمن طويل ظل جسد النبلاء بدمه الأزرق وجنسانيته السليمة محط فوقية عارضت الاعتراف بجسد الطبقات المنذورة للعمل.
الكلام هنا عن الدولة التي شكلت بمؤسساتها المختلفة خطابات حول جسد المرأة وجسد الرجل، هذه الدولة المغربية تحرشت بالجسد وبصورته وبمعناه، تحرشت ببرامجها التربوية وبالثقافة التي شكلتها في وعي الناس، تحرشت بالمواطن وبعلاقته بجسده، ولم تعلمه ثقافة جسدية لا تختصر المرأة في جسد مصلوب على سرير ولا تجعل من الرجل مجرد عصا متشنجة بفحولة مدعاة.
الثقافة التي تقدم للمرأة جسدها كوديعة لتسترده ممهورا بالدم، والثقافة التي تجعل الرجل يسكن في جسد عقابي هي ثقافة دولة تتحرش بالوطن.