متاهة الحروف

15 نوفمبر 2013 - 22:26

 ثم أخذت أرسمها بقلم الرصاص على صفحات الدفتر ذي الرائحة النفّاذة.. وكنت أجاهد عبثا حتى لا أنحرف عن السطر.. ثم أخذت ألصق الحرف بالحرف في عملية سحرية تتولد عنها كلمات بعضها كنت أفهمه، وبعضها أكتفي بترديدها.. بعدها، صرت أضع الكلمة جوار الكلمة لأحصل على الجملة وعرفت الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر دون أن أعرفهم حقا. كنت أنغمس في كل هذا ولا يخرجني منه سوى جرس المدرسة، فألملم أدواتي وأنسى تلك الحروف والجمل على طاولتي وأغادر رفقة أقراني راكضين إلى الدرب حيث نرتمي في أحضان لغة أخرى تجري على لساننا كالماء ولسنا في حاجة للمعلمة ذات الصوت الحاد لمعرفتها. 

فنتبادل بها النكات ثم فيما بعد الكلمات البذيئة، وكان الأكثر جرأة بيننا يغازلون بها البنات وقت الخروج من الإعدادية. ولم أكن أعود إلى حروف العربية وجملها سوى في القسم أو مدرجات الجامعة أو لما أختلي بنفسي للانغماس في «بلية» القراءة.

مع الوقت، رحت أقفز- بخفة بهلوان ماهر متمرس على القفز على الحبال- من الأمازيغية- التي رضعت من ثدي أمي والتي تحضرني تلقائيا عند الحديث معها أو مع أفراد عائلتي الشيوخ – إلى الدارجة.. لغة الحياة في نميمة الشارع ونقاشات المقهى وحتى شهوة السرير.. وإلى اللغة العربية التي عشقت أو بالأحرى أدمنت كما يدمن آخرون التدخين.

إن هذه الهوة السحيقة بين لغة المدرسة ولغة الحياة، في تقديري، من أسباب تردي تعليمنا، فالمدرسة عندنا جزيرة معزولة تماما عن بر الحياة الشاسع والمترامي. إذ يميل التلميذ في بلادي إلى ربط اللغة العربية الفصحى بالمدرسة، بل ويربط حتى المعارف المكتسبة بها بالقسم. لذا، فهو ينقطع عن هذه المعارف وعن تلك اللغة ويتركها بين جدران المدرسة ما أن يدق جرس المغادرة ليغوص في لغة أخرى، أو لغات أخرى.

لذلك، فالحديث عن إدماج الدارجة في التعليم (الأولي أو غيره)، سواء اتفقنا معها أم لا، يبعث على التأمل.. ويحثنا على الانخراط في عملية التفكير المؤلمة التي لا يطيقها الكثيرون.. فَيَلوذون بـ»المقدس» و»القومية» و»الثوابت» علّها تجنبهم عناء هذه العملية الضرورية، بل الحيوية لإنقاذ تعليمنا، وعبره كل هذه البلاد، من هذه المتاهة اللغوية المربكة والمعيقة لأي حركة نحو الأمام.

وللأسف وجد هؤلاء ما يبرر مواقفهم المحافظة في طابع «القدسية» الذي تم الإفراط في إضفائه على اللغة العربية الفصحى بالعالم العربي عبر التاريخ لغايات إيديولوجية بالأساس، ليس هذا مجال الخوض فيها. والواقع أن هذه «القدسية» تحولت إلى سجن خانق ما فتئت قضبانه تضيق على هذه اللغة منذ أن صارت عالمية قبل 14 قرنا وتمكنت من فرض حروفها على العديد من اللغات والحضارات المجاورة للجزيرة العربية. وقد حان الوقت لتحريرها من هذه الشرنقة التي يمكن أن تقضي عليها. ولعل المجتمع المغربي الأكثر ملاءمة للنهوض بهذه المهمة بفضل تعدد روافده الثقافية واللغوية.

وفي تقديري، فبدلا من الحديث عن ضرب الفصحى المخملية بالدارجة «بنت الزنقة» أو إمعان الفصحى، ذات النسب والحسب، في التعامل بتكبر مع الدارجة «اللقيطة»، يُستحسن العمل على الحد من اتساع الهوة بين هذه العربية «المتعالية» المسلحة بسلطة القدسية الدينية، وبين اللغات الأخرى التي تملك شرعية الحياة وشرعية العلوم وشرعية العصر السيبرنتيكي الذي يغمرنا بشبكاته كما تغمر الأمواج العالية السباحة المهرة.

ولعل عبدالله العروي، المفكر الكبير الذي يدرك جيدا أن جذور الدارجة تغوص عميقا في تربة المجتمع المغربي حاليا، ويتفهم جيدا الحساسية السياسة للغة في التعليم، يقترح، بحذر العالم، حلا للمستقبل قد يقلص من هذه الهوة. فهو يدعو إلى ما يسميه «تعميم» (من العامية) الفصحى بدل ترسيم الدارجة في الوقت الراهن. وهذا «التعميم» يقول العروي «قد يتطور إلى حد أن تتميز الفصحى المغربية عن غيرها تَمَيُز الإنجليزية الهندية عن الإنجليزية الإنجليزية». ويضرب مثلا بحالة اليونان التي كان فيها الكثير يطالبون بجعل «العامية» لغة رسمية لعقود طويلة وقد تحقق ذلك «عندما تطورت العامية إلى مستوى جعلها قادرة على استيعاب شعر كفافي وروايات كازنتساكيس»، يقول العروي. وأتساءل إن لم تكن إرهاصات هذا المستوى تلوح في  ثنايا شعر الملحون مثلا وأشعار عدد من شعرائنا الذين يكتبون بالدارجة.

 

شارك المقال

شارك برأيك
التالي