لنتذكر كيف تابعنا قبل سنوات جدلا مثيرا بين الكاتبين المغربيين الكبيرين، الطاهر بنجلون، ومحمد برادة، حول مدى الحرية التي تمنحها اللغة، واللغة هنا تتحول من كونها مجرد أداة للتواصل إلى حامل للقيم وللموروثات الثقافية، والمقارنة طبعا تحيل إلى العربية المثقلة بالمقدس، كلغة للقرآن وبين الفرنسية كحاملة لثقافة التنوير والحرية.
الطاهر بنجلون اعتبر في لقاء تلفزي أنه لن يشعر بالحرية نفسها لو فكر بالكتابة بالعربية. رد محمد برادة كان مفحما وهو يعرج على الإبداع الشعري والنثري باللغة العربية في بعض حالاته الأكثر انطلاقا وتمردا…
حساسية هذا الجدل قبل أن تصل إلى ملف التعليم، كانت قد انتقلت منذ مدة من الأدب إلى الإعلام، متخذة أبعادا أكبر قياسا مع رهانات هذا الأخير وقوة رسالته.
لذلك، نتذكر جيدا أحد حوارات مدير عام سابق للقناة الثانية أواسط التسعينيات، لعله سميرس بناني، حيث دافع عن تقسيم للأدوار بين البرامج المذاعة باللغة العربية وبين تلك المذاعة باللغة الفرنسية، تصبح معه الأولى جديرة بالاحتشام، حريصة على الخطوط الحمراء وما دون الحمراء، وتتحول الثانية إلى فضاء للجرأة ولاختراق الممنوعات. ملحق الإذاعة والتلفزيون لجريدة الاتحاد الاشتراكي كان قد تكفل آنذاك بالرد على سذاجة هذه السوسيولوجيا اللسانية المتهالكة لمدير 2M.
اللغة في هذا التصور، تتحول إلى محدد حاسم للانتماء الفكري والثقافي، حيث بالضرورة جمهور باللغة الفرنسية، يستبطن المرجعية الحداثية والتنويرية، وحيث بالضرورة متلقي الإعلام باللغة العربية، يتمثل بالضرورة ثقافة القمع والكبت والمنع…
وبغض النظر عن تهافت وسطحية هذه الخطاطة، والتي تجعل اللغة واللغة وحدها، محددا للسلوك الثقافي ولردود الفعل الفكرية والاجتماعية، بعيدا عن أي تأثيرات خارجية محتملة. فإنها تتعامل مع قيم الحداثة، كفاكهة نادرة جديرة بالنخب المخملية، ومحرمة قطعا عن أوسع الجماهير ذات «الاستعداد» التلقائي لتبني ثقافة المحافظة، لأنها محكومة بالسقف الفكري للغة تواصلها.
الأكيد أنه ليست هناك لغة للحرية ولغة للمنع، وأن أطروحة اللغة كناقل وحيد للحداثة، هي جزء من الماضي الكولونيالي، لكن، بعيدا عن التأصيل العلمي، تحاول بعض الخطابات استعادة هذه الكليشهات حول اللغة والحرية، خدمة لرهانات واستراتيجيات أكبر مما نتصور، فالصراع حول اللغة هو صراع السلطة كذلك، في الداخل كما في الخارج.
النزوع نفسه، عشناه منذ أقل من عقد داخل الحقل الصحفي، لكن مع استبدال اتجاه الهجرة اللغوية نحو قارة الحرية، من الفرنسية إلى «الدارجة المغربية». ولأن الأوساط المنتجة لهذه الأطروحة هي نفسها التي رعت فكرة أن الحرية سمكة تموت خارج ماء الفرنسية، فإننا نجد أن المبررات تكاد تتطابق، أو تتماثل، حيث تصبح «الدارجة لغة الحياة والجرأة والتمرد … مقابل «العربية الكلاسيكية» كلغة للمعاجم والماضي والدين وكمنبت للتطرف والأصولية….
الفكرة بعيدة عن أن تكون أصيلة، فأكثر من ذلك، ومنذ بدايات القرن الماضين وعلى امتداد الكثير من البلدان العربية شكل مطلب تبني اللهجات المحلية الدارجة كلغة وطنية، جزءا من النقاش حول السياسات اللغوية.
وتحول هذا المطلب الهامشي، في بلد كلبنان إلى ما يشبه التيار الفكري واللغوي، بأنصاره ومنظريه..
عموما، الظاهرة تحتاج إلى التفكير والمتابعة، وإذا كان من الممكن الاطمئنان إلى أن الخلفية الميركنتيلية والتجارية لعملية إدخال الدارجة المغربية إلى الصحافة المغربية، هي الزاوية الوحيدة والممكنة لقراءة هذا التحول، فإنه لابد الآن، من الانتباه اليوم، إلى الحاجة لنقاش عميق حول المدرسة وأسئلة الهوية والمواطنة والفعالية، نقاش لا يخفي الرهانات المجتمعية والسياسية والطبقية والإيديولوجية، لكنه ينصت كذلك، لصوت غائب عن الخلفية لحد الآن: صوت المعرفة والعلم.