كما تميز بمشاركة لافِتة للنسيج الجمعوي المحلي، والهيئات التمثيلية للإقليم. ولأن الملتقى الدولي الثاني للداخلة مسَّ، من منظور مُقارن، إشكاليةً بالغةَ الأهمية، تخُصًّ «دينامية الاندماج الجهوي وآفاق التطور الترابي في ظل العولمة»، فقد أغنى، بالنقاش والحوار والاستشراف، جوهرَ القضايا التي تعترض مسيرة الاندماجات الجهوية وديناميات العولمة، والبدائل الممكنة للتفاعل الإيجابي معها.
يُكثّف «إعلان الداخلة»، بحسبه عُصارة يومين من الحوار، مجمل الإشكاليات المُثارة، والاستنتاجات المُستخلصة، والحلول الذكية المُقترحة لمواجهة عولمة حُبلى بالمفارقات والتناقضات، واندماجات جهوية مُتأرجحة بين النجاح والكبوة، وفضاءات ترابية صاعدة تتوق لأن يُصبح لها موقع في التشكّلات الجديدة للعالم. ولأني كنت أحد المشاركين في الملتقى، فقد لمست كيف شكلت الحوارات المتقاطعة للمساهمين في إضاءة رؤية المتناظرين وأفهامهم لواقع الاندماجات الجهوية وآفاق التطور الترابي في ظل العولمة. كما أذكت إراداتهم الجماعية لما يجب أن يكون عليه النمو الاقتصادي الجديد، والضرورات المُلازمة له في مجالات التماسك الاجتماعي، والأمن الجماعي، والتسامح بين الدول والشعوب. والأكثر، قرّبت تصوراتهم لما يجب أن يكون عليه بناء المستقبل والعيش المشترك.
نقرأ في « إعلان الداخلة» وجود توجّس واحتراز واضحين حُيال أسطورة « العولمة السعيدة»، كما نلمس وعياً عميقاً من قبل المشاركين لما تنطوي عليه هذه الحركة من مفارقات، وما تحمل من تغييرات هيكلية. فالعولمة بقدر ما كسرت الحواجز وفتحت الحدود أمام انسياب المبادلات وارتفاع معدلاتها عبر العالم، بالقدر نفسه سعت، من حيث تدري أو لا تدري، إلى طمس التمايزات والخصوصيات، وتقويض الهويات، ومن ثمة، تفكيك تماسك المجتمعات على الصعد الثقافية والقيمية والرمزية. إن أخطر ما في حركية العولمة المتنامية منذ سنوات، إرادتها في تنميط المجتمعات وتعليب سلوك أفرادها، وتذويبهم بالقوة في منظومة قيم لا تعترف بتمايزاتهم، ولا تكترث بدرجات الاختلاف التي راكموها عبر التاريخ. ومع ذلك، عكسَ إعلان الداخلة وعيَ المشاركين وجودَ مقاومات تروم ترشيد مخاطر العولمة، وتسعى إلى تثبيت بناء نماذج تنموية بديلة لما يُصرُّ دعاة العولمة على ترسيخه عبر العالم. وقد أجمع المساهمون على أن «التحولات الكبرى» الناجمة عن حركية العولمة ستؤدي إلى هيكلة الاندماجات والتخصصات الجهوية، وستفتح المجال لبروز فضاءات تنافسية جديدة، وقد تُفضي إلى ظهور فوارق دولية جديدة في مجال النمو.
من الخلاصات القوية التي عكسها إعلان الداخلة، تأكيد المشاركين على أهمية إعادة الاعتبار لدور الدولة ووظيفتها المطلوبة، بوصفها فاعلاً مهندساً للأمن، وبناء الاستراتيجيات، وصياغة الرؤى البعدية لمواجهة مخاطر التغيرات الهيكلية التي تفرزها جدلية العولمة. لذلك، وخلافاً للمقاربات التي سوّقت مقولة «موت الدولة» وانسحابها من المجال العمومي، فإن حوارات ملتقى الداخلة، أكّد الأدوار الاستراتيجية المطلوبة للدولة في تكريس التوازنات، وصناعة المؤسسات، والاجتهاد في وضع آليات الضبط الجديدة. بيد أن تشديد الإعلان على المكانة المطلوبة للدولة، لم يمنعه من التأكيد، في المقابل، على الضرورة الملحة لتجسير الفجوة بين صناع القرار [ الدولة والمؤسسات]، والشعوب والمجتمعات المدنية والخبراء والأكاديميين والفاعلين الاقتصاديين.
كان لافتاً أن يتوقف «إعلان الداخلة» عند الجهود التي يبذلها المغرب للإنصات للأسئلة التي يطرحها الحراك العربي منذ مستهل العام 2011، والتفاعل الإيجابي والبنّاء مع مطالبه. ولأن روح الإصلاح متأصلة في الموروث التاريخي والثقافي المغربي، فقد كان طبيعياً أن يُعمِّق المغاربة مسيرتهم بجيل جديد من الإصلاحات، كرّستها الوثيقة الدستورية الجديدة [2011]، وستُعمقها القوانين التنظيمية المنتظرة. ولأن مدينة الداخلة الحاضِنة للملتقى توجد في قلب الإصلاحات الهيكلية المنتظرة، فقد شدّت انتباه المشاركين، وأثْرت حواراتهم، لما تختزنه من عناصر قوة في إنجاح نهضة الأقاليم الجنوبية المغربية، فموقعها الجيواستراتيجي يؤهلها لأن تكون، بامتياز، قاطرة لفضاء تنموي جديد يربط المغرب بجناحه الإفريقي، وبُعده الأطلسي.