ليتك ولدت هنا

16 ديسمبر 2013 - 18:43

ارتبك مدير الفندق بالوافد الجديد. راح يتفقّد المكان. هذه غرفة أدولف هتلر، وهذه شقة جوزيف ستالين، وسرير ماوتسي تونغ، وزاوية بول بوت؛ هذا المكان غير ملائم.

تفقد الجناح الإفريقي. الإمبراطور بوكاسا في زنزانته مع صورة نابوليون. وموبوتو سيسي سيكو يبحث عن نادل يرميه للتماسيح. وعيدي أمين يواصل تهريجاته الدموية. وهذا المكان غير ملائم.

لهذا الجناح نكهة أخرى. غاندي جالساً على حصيرته. ومارتن لوثر كينغ منفرداً بحلمه. وإبراهام لينكولن يتابع الـ «سي إن إن». وسيمون بوليفار يتمشى مع تشي غيفارا. هذا مكان لائق، لكن الوافد يستحق اكثر.

يختتم مدير الفندق جولته ويصدر قراره. وحدها شرفة التاريخ تليق بنلسون مانديلا.

لم يحدث أن انحنى العالم لرجل كما فعل لدى شيوع نبأ وفاته. كأن كلمة العملاق صنعت لأجله واستخدمت خطأ في وصف غيره. تذكر الناس قصة القامات. في حضرة هالته يبدو سيد البيت الأبيض ولداً مذهولاً أمام عراف. ويبدو قيصر الكرملين ضابطاً أرسلته الـ «كي جي بي» في مهمة سرية. سيد الإليزيه يظهر عارياً من الأوسمة. وحارس 10 داونينغ ستريت رجل عادي لزمن عادٍ.

لا يرتكب العالم مثل هذا الذنب الناصع إلا نادراً. رفع الكوكب قبعته إجلالاً. كأنه شعر بخسارته. لا جيوشه جرارة ولا أساطيله تعتقل البحار. لكنه أقوى وأعنف. رجل صنع قصته فصنع له الشعب أسطورته. رفع رأسه ضد التمييز العنصري وأبحر مع قدره. توالت السنوات وراء القضبان وظل السجين مقيماً في عنفوانه وجبهته. عرضوا عليه الحرية مشروطة بالتنكر لحلمه فرد بابتسامة احتقار. ومن داخل الزنزانة لمعت قبضته في ضمير شعبه وضمير العالم.

مفاتيح القصة ليست سرية. كرامة الإنسان. مقاتلة الظلم بلا هوادة. رفض امتهان الحقوق والكرامات. الحق في العيش الكريم وتساوي الفرص. الديموقراطية وحقوق الإنسان.

في السجن الذي امتد سبعة وعشرين عاماً، اتخذ قراراً سيغير مصير بلاده. تعلم لغة الأقلية البيضاء المتسلطة. غاص في ثقافتها وشعرها وتراثها. مكنه ذلك من ملامسة مخاوفها وهواجسها. وحين خرج من السجن كان اتخذ قراره. نعيش معاً في ظل الديموقراطية. المصالحة لا الثأر. لا مكان للهيمنة البيضاء. ولا مكان لهيمنة مضادة. ولم يكن القرار سهلاً. ففي ذاكرة السود عقود من القهر كان ممنوعاً عليهم فيها الاقتراب من قرى الأسياد ومدارسهم ونواديهم.

ساعة خروجه من السجن في 1990 خاطب منتظريه قائلاً: «أقف هنا أمامكم لا كرسول، بل كخادم ذليل أمامكم أمام الشعب. إن تضحياتكم الدؤوب والتاريخية هي التي جعلت من الممكن أن أقف هنا اليوم. ولهذا، أضع ما تبقى من سنوات عمري بين أيديكم». وفي 1993، شاهده العالم يتقاسم نوبل للسلام مع عدوه الذي تحول شريكاً وهو آخر رؤساء نظام التمييز فريدريك دو كليرك.

في السنة التالية، وفي أول خطاب بعد فوزه كأول رئيس أسود لجنوب أفريقيا توجه إلى مواطنيه قائلاً: «حان الوقت لمداواة الجراح. حان وقت تخطي الهوة التي فرقت بيننا. حان وقت البناء». قاد الرجل عملية انتقال سلمي للسلطة. فكّك النظام العنصري. وجنّب بلاده حرباً أهلية طاحنة.

أدرك مانديلا أن عليك أن تلتفت إلى الآخر الذي لا يشبهك في الوطن. أن تفهمه وتلتقي معه في الدولة ومؤسساتها. وأن تُبنى المصالحة على العدالة والتسامح والتطلع إلى الازدهار والمستقبل المشترك. وبعد خمسة أعوام، غادر موقع القرار مكتفياً بتوظيف هالته في خدمة وطنه وشعبه.

قصة مانديلا قصة العاشق. عاشق للحرية والكرامة. عاشق للحياة والعدالة والتسامح. وعاشق أيضاً للموسيقى والنساء والثياب الجميلة والقمصان المزركشة والملاكمة والرقص. عاشق لشعبه وللإنسانية.

يغيب مانديلا فيما تغرقُ بلداننا في الظلام وتسافر عواصمنا إلى الكهوف. لا نعترف بالآخر. لا نقبله إلا عبداً أو جثة. نريد شطبَ ملامحه ومحو تراثه واقتلاع جذوره. نسينا مفردات كرامة الإنسان وحقوق الفرد واحترام الاختلاف والاعتراف بالآخر. أعرف أن كثيرين استقبلوا نبأ وفاته بالقول ليتك ولدت هنا. يحتل مانديلا شرفة التاريخ ونندفع نحن في اتجاه الهاوية.

 

عن«الحياة» اللندنية

 

شارك المقال

شارك برأيك
التالي