الانحياز لمنطق الحياة، للحرية كجوهر هو الوصفة الروحية التي تشبع بها مانديلا. إنه الأسود الذي استوعب الأبيض كاملا . الانشغال بالآخر، التماهي معه، البداية منه للوصول إلى الذات ، تلك هي أسرار ماديبا. كان يدرك أن كل ممارسة للعنف على الآخر هي ممارسة للعنف على الذات، صراخ الآخر دائما يخرج من شفاهنا في زمن ما.
وفي الوقت الذي كان الآخر يخطط للموت، كان مانديلا في سجن جزيرة روبن يخطط للحياة. ومابين يونيو 1964 تاريخ سجنه و11 فبراير 1990 تاريخ الإفراج عنه، كان العالم يَشِف أكثر وسماكة الإيديولوجيا تخف ابتداء من الغلاسنوست والبروسترويكا 1983 مرورا بسنة 1989،حيث انهيار جدار برلين وصولا لانهيار جدار سجن كان يحجب عن العالم أيقونة نضالية، عرفت كيف تخبز لشعبها خبزا لا يجوع بعده أبدا، خبز الحرية المعجون بماء الكرامة وملح العدالة.
في نفس هذه السنوات، كان حكام دولنا المغبونة، يشدون حزام التقشف والحرية والكرامة، ويغلون أيدي الحياة. كانوا يأتدمون الدم ويطعمون الأجساد المؤمنة غدر الرصاص. وفي مقابل الشفافية كانت الجدران تعلو والوطن يختفي والإنسان يتحول إلى قبر مفتوح. لكن مانديلا كان له رأي آخر يتحالف مع الحياة ومع الصورة المنتجة للسلطة كان يؤمن بأنه «عندما يكون هناك خطر فعلى القائد الجيد أن يأخذ الخطوط الأمامية، أما في الاحتفالات فعلى القائد أن يبقى خلف الكواليس». والذين أدمنوا على الاحتفالات في ساعات الحقيقة، تصدعت صورهم التي كانت تحجب الشمس عن شوارع الوطن. من منا لا يذكر مشهد الشبان التونسيين الذين تناوشوا بأيديهم صورة كبيرة لزين العابدين بن علي، ففي الدول التي وقعت فيها الثورات الشبابية، كانت هناك صور كثيرة وكبيرة منصوبة في الشوارع الرئيسية. وكلما كانت الصورة أكبر كلما كبر لهيبها وهي تحترق، و كبر الأثر الثوري، فكلما كانت صورة الحاكم صغيرة في الشوارع، كلما كانت كبيرة في قلوب الشعب والعكس صحيح أيضا. الذين يدرسون فقه المرجعيات، يعرفون جيدا أن المرجعية هي بالأساس إسناد للمعلومة. الرؤساء وقادة العالم الذين حضروا حفل تأبين مانديلا جاؤوا ليستمدوا من مرجعيته الرمزية والأخلاقية ما يقيمون به أَوْدَ سياساتهم المتهالكة. جاؤوا ليستعيروا قيما تعيد الحياة لدول وسياسات عجلت بإفلاس المجتمعات وضياعها في لجة إرادة قوة متجبرة تقتل الإنسان في الإنسان.
الرأسمال الرمزي والقيمي الذي كان مانديلا يطعم الجدران زهرة شبابه من أجله، هو ما لم يكترث له قادة، كان اعتمادهم على العنف أقوى ورهانهم على الرصاص أعمق.
لقد غاب عنهم أن الشر نفسه جندي من جنود الخير والذين أبادوا شعوبا دون أن يتركوا لها فرصة تدوين وجعها، فهموا أخيرا أنهم جعلوها تعيش للأبد. إنه نفس المعنى الذي ألمح إليه الراحل محمود درويش عندما اعتبر أن العدو منح شعبه شهرة خاصة «لقد اهتموا بنا لأنهم يهتمون بكم»، يقول الشاعر بحسرة ووجع. في زنزانته كان مانديلا يطعم الحرية، وثانية اكتملت سبع وعشرون سنة ونصف، هي عمر بذرة عرفت كيف تناور الجدران وتخصب وطنا. فليس هناك قوة تشكل أكبر من القوة التي يصنعها القهر في الضعفاء. إن هذه الكثبان العظيمة ليست في النهاية سوى تراكمات لذرات صغيرة. في حفل التأبين بدا أوباما إفريقيا يقرأ تحت سنديانة إفريقية شامخة قصيدة ولاء لأرض لم تكبر بالاستعمار، بل تغذت على الحرية.