ليبيا البناء العصي

03 مارس 2014 - 20:50

 إن لم تكن قد أصبحت فاشلة حقا، وحدها لغة السلاح، وتناحر المليشيات، وتصاعد موجات الفوضى، هي العُملة السائدة اليوم في «ليبيا الجديدة».

يحتاج البناء الجديد، بحسبه عمليةً مركبةً ومعقدةً في الآن معا إلى مصفوفة من المتطلبات، أهمها مناخ البناء ذاته، الذي لا يمكن أن يكون سوى مناخ  الثقة بين الفرقاء، والفاعلين، والمتدخلين في سيرورة البناء سلباً أو إيجاباً، ودون ذلك سيتعمق انحدار ليبيا نحو مزيد من الفوضى، والتفكك، والفشل. ففي   ليبيا اليوم، لا تبدو المؤسسات التي أفرزها حراك السابع عشر من فبراير قادرة على إقناع الناس بإمكانية قيادتها مشروع إعادة البناء، بل ما هو حاصل في الواقع أن شرعيتَها تآكلت، ولم تعد مقبولة من قبل أوسع قطاعات المجتمع الليبي، وإلا بماذا نفسر المظاهرات التي عمّت مجمل الحواضر والمدن الليبية، مطالِبة بحلِّ المجلس الوطني العام [البرلمان الليبي]، وإيقاف الحكومة القائمة، وتشكيل أخرى مستقلة لوضع دستور للبلاد، وتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة؟.  

  ستكون عمليةُ إعادة بناء «ليبيا الجديدة» معقدة، شاقة، وطويلة، وستكون كُلفتها عالية، ليس بالنسبة إلى الليبيين فحسب، ولكن أيضا، وإن بدرجات مختلفة، بالنسبة إلى جيرانهم شرقاً وغرباً. فتاريخ ليبيا الحديث لم يمدّ الليبيين بما يُمكِّنهم سياسياً وثقافياً من إنجاح انتقالهم إلى وضع جديد يقطع مع إرث النظام المُنهار، ويؤسس نظاماً جديداً بمشروع مجتمعي جديد، يتعاقدون حول مقوماته الأساسية. فالفراغ المؤسسي والسياسي الذي كرسته تجربة أكثر من أربعة عقود من حكم القذافي، عزَّ على النخبة الليبية الجديدة التغلب عليه، بالتوافق على مؤسسات جديدة، قادرة على استعادة الدولة ومصالحتها مع المجال السياسي الليبي، بل ما حصل تحديداً هو اتساع الفجوة بين المجتمع وقابلية أبنائه قبول مفهوم الدولة وتمثّله على صعيد الإدراك والوعي السياسيين. لذلك، كان طبيعياً أن تتعمق النعرات القبلية والعشائرية التي تمت تغذيتها خلال النظام القديم، وتبرز نزعات الانفصال، وتتناسل الدعوات الإثنية والفئوية، ويعزز السلاح، الموزَّع بسخاء كل الظواهر المُعيقة لإعادة استنبات مفهوم الدولة في السياق الليبي الجديد.

ليست معضلة استعصاء إعادة بناء الدولة الليبية الجديدة مرتبطة بثقل إرث النظام المُنهار فحسب، بل متصلة أيضا بتعدد الرهانات الدولية والجهوية في ليبيا، وتنوع أجندة الأحزاب والقوى السياسية الداخلية. فليبيا هي البلد الوحيد الذي فُتِحَت أبوابُه للحلف الأطلسي مبكراً، وساهمت دول كبرى مباشرة في إسقاط نظامه، بل وشاركت دول إقليمية جهراً ودون تردد في ترتيب سير أحداثه. لذلك، تبدو ليبيا اليوم بلداً مفتوحاً لتناقض الرهانات وتصارع الفرقاء وفي غياب حد أدنى من الثقافة السياسية الناضِجة والديمقراطية، يغدو البناء في «ليبيا الجديدة» عصيّاً على المنال في الزمن المنظور، بل ويوحي تواتر الأحداث وارتفاع درجة عنفها بسوء القادم منها.       

ليس الاستعصاء قدر ليبيا المحتوم، كما ليس واقعاً غير قابل للتجاوز، إنه معطى موضوعي، إذ يرتهن بناء «ليبيا الجديدة» بمدى فهم تعقيداته، والقدرة على تجاوزه إيجابيا. والحقيقة أن الانتصار على استعصاء من هذا الحجم مرتبط بشكل عميق بكفاءة النخبة السياسية الليبية على إنجاز متطلبات المرحلة الانتقالية باقتدار، وهي في كل الأحوال متطلبات معروفة ومفهومة في أدبيات «علم الانتقال»، من قبيل النجاح في تفكيك إرث النظام القديم، والقدرة على بناء التوافق  بين كامل الفاعلين السياسيين، وفتح المجال للمجتمع ليكون مناصراً للمشروع الجديد وحامياً له من التراجع أو النكوص.. إنها متطلبات صعبة، لكن ليست مستحيلة.  

 

شارك المقال

شارك برأيك
التالي