محمد الأشعري: إنهم يحبونني

05 أبريل 2014 - 20:57

محمد الأشعري

وسنرى، عبر هذا الوجه المحير، ذلك النهر البشري العظيم الذي أنزل الحاكم من علياء حمقه التاريخي، يتحول، شيئاً فشيئاً، إلى خيط يلتف حول القلب، ويجمد في لحمه الحي ما يشبه نبض فجر كاذب. ومن كل ما مر، سيترسب في كأس مصر تلك النقطة التي أفاضت الكأس، وقد رجعت إلى مكانها، بانتظار أن تمتلئ الكأس مرة أخرى، فتعود إلى دورها "السيزيفي" في لعبة الكأس التي لا تفيضها سوى نقطة واحدة. 
وأثناء ذلك، نتلقى، كل يوم، ما يفعله الإعلام المصري بسذاجةٍ لا حدود لها، وهو يشيد أيقونة المشير بتوابل، تخلط رفات عبد الناصر بنبوءات التوراة، ومعجزات العهد الفرعوني بالفتوحات المكية. .. ماذا جرى لهم؟ وكيف يحدث هذا لإعلام مصر؟ كيف يخرج العقل في نزهةٍ، لأخذ قسط من الراحة، بعد "صلاة الرسول خلف محمد مرسي"، فيضل طريقه، ولا يعود أبداً؟؟
كلنا يمكن أَن نضع العقل بين قوسين، فنتصور أَن مصر كانت مهددة بالدمار الشامل، لولا ألطاف الجيش، وأن الدماء التي سالت كانت ضرورية لإنقاذ الثورة، وأَن صدور مئات الأحكام بالإعدام ليس سوى استعادة متأخرة لهيبة الدولة. كلنا يمكن أَن نخاف على مصر من جنون الإرهاب، ومن مغامرة الديموقراطية، ومن انهيار الأمن والاقتصاد. لكن، بغض النظر عن الخطأ والصواب، عن الحقيقي والمفتعل، عن النسبي والمطلق، في لحظةٍ ما، لا بد أَن نهدأ.  لا بد أن تعود الهيبة إلى العقل، قبل أن تعود إلى الدولة. لا بد أن ننظر في المرآة، بكامل عقلنا، ونرجع إلى أسئلة البدء: ما الذي سقط، وما الذي استقوى، وما الذي بقي حصاةً في الخطى، وشوكة في الحلق؟؟؟ من رحل، ومن بقي، ومن عاد، ومن استبدل الوجه بالقناع؟؟؟
أسئلة "شكسبيرية" ربما، لا تصلح لصياغة أجوبة بسيطة على وضع معقد. مع ذلك، لا يمكن الذهاب بعيداً من دون استحضارها، ومن دون التساؤل، بعد كل الذي جرى، عما إذا كان ما يزال ممكناً أن ننقذ شيئاً من عبث اليقين المطلق.
هل يمكن بناء دولة مطمئنة، مستقرة، بتشييد سور سميك بين جزء من الشعب، تحبه الدولة، وجزء آخر لا تحبه؟
هل يمكن، ببساطة مفزعة، إعادة إنتاج "النبي المنقذ" في عالم اليوم؟
هل يمكن أن لا يكون في شعب مصر العظيم سوى احتمال واحد، لا مناص منه؟
هل يمكن أن تلد الثورة ديموقراطيةً مبتورةً، كأنها وضعت حملها قبل الأوان؟
لا أحد يمكنه أن ينوب عن الشعب المصري، لا في وضع الأسئلة، ولا في صياغة الأجوبة. لا أحد يعرف ما سيقوله الميدان غداً، أو بعد غد، ألم يكن هادئاً حد اليأس قبل "جمعات الغضب والحسم والرحيل"؟ ولكن، كيف يمكن أن نحب مصر، ولا يفزعنا إعلامها، وهو يردد، واثقاً من نفسه، أن الشعب هو الذي يريد "المشير"؟ والثورة، حتى وهي لا تحب حكم الجيش، فإنها لا تستطيع، اليوم، النزول إلى الشارع ضد الشعب.
 ومن جرب هذا النزول ضد كل منطق، يقبع، الآن، في السجن، ولن يخرج منه إلا "سيسياً" فصيحاً، أو ثوريا فقد لسانه.
قبل أيام، ودعت إسبانيا، بإجماع وطني قل نظيره، رجلاً من قلب النظام الفرنكي، قاد مرحلة الانتقال إلى الديموقراطية، من دون أن يتساءل من الذي سيحكم إسبانيا، فيما لو قطعت مع نظام فرانكو، وانتقلت، بشكل لا رجعة فيه، إلى حكم الإرادة الشعبية. كان أدولفو سواريس،  وهو الاسم الذي سيدخل به التاريخ، يعرف، حتى وهو ينتمي إلى نظام فرانكو، أن الوطن أهم من "العهد"، وأن المستقبل أهم من الماضي. لماذا ترفض تربتنا أشجاراً من هذا الصنف،  حتى لو تعلق الأمر بالتربة المصرية، الخصبة بتجربتها ونخبتها ونهضتها، ومكانتها في قلب الوطن العربي؟
في رواية غارسيا ماركيز "خريف البطريرك"، ينتظر الناس على الأرصفة، أياماً وليالي، مرور موكب الطاغية، وعندما يصل، أخيراً، يهتف الناس ويبكون ويتدافعون، فإذا حاول الحراس احتواءهم، صاح الحاكم متأثرا:
إنهم يحبونني
وطبعاً، لا أحد تجرأ، وقال له: إنهم خائفون، ومرهقون، وتائهون بين الذي يأتي ولا يأتي، لكنهم لا يحبونك، قطعاً لا يحبونك.
ولأنهم لم يقولوا، مرَّ الشتاء الطويل، والربيع الخاطف، والصيف الملتهب، وحلَّ الخريف المرعب الذي لا ينفع معه سوى البدء من الصفر . 

شارك المقال

شارك برأيك
التالي