حصان طروادة

09 يونيو 2014 - 19:39

 وما سيحاوله الوحش الجديد الذي سيصارعه «غراندايزر» ويتغلب عليه. وبعدها بسنوات صرنا نسارع الخطى حتى لا تفوتنا مغامرات «دون كيشوط» على حصانه بنبرة صوته الوقورة التي تتناقض مع ما يتعرض له من مواقف مضحكة، تماما مثل موقف وزير الاتصال وهو يتحدث عن «الماخور المكسيكي» بالبرلمان ويعرض تصورا ضيقا عن القيم والأخلاق وعلاقتهما بالإبداع.

كنت أتابع كل هذه الحكايات وغيرها باندهاش الطفولة مشوبا بغير قليل من خشوع. وليس من شك أنها ساهمت في بناء هذا الكائن الذي يحرر هذه السطور، وهو كيفما كان الحال، ومهما كانت نواقصه، يختلف كثيرا عن وزير الاتصال. فتلك الحكايات وغيرها جعلتني أدرك أن الهوية «شيء» مثل ماسة متعددة الوجوه والألوان وليست ذات لون واحد وكئيب.. إن الهوية ليست حجرا صلدا جامدا ميتا، بل «كائن حي» متحول، لا يتوقف عن التطور، وعن الاغتناء من كل ما يصادفه في طريقه، ولا يخفيه البتة أن يتابع مشهد «خيانة زوجية» على شاشة التلفزة.

لست أقول هنا إن تلك القناة الوحيدة التي كانت تشتغل لأربع أو خمس ساعات في اليوم، كانت نموذجا في الحرية والانتفاح وتشجيع الإبداع، بل كانت ومازالت على العكس من ذلك تماما، فمازلت أتذكر (ولعل كثيرين مثلي) والدي وهو يتابع نشرة الأخبار وخطب الراحل الحسن الثاني، وكأنه ينصت إلى عظة راهب (أو خطبة إمام) ذي هيبة ربانية، لا يمكن الشك في ما يصدر عنه من كلام. ومازلت أتذكر كيف كان هذا الجهاز بصوره الباهتة يفرض على المغاربة ما تريده السلطة والسلطة فقط.. وما تراه جديرا بأن يعلمه المغاربة، وبالطريقة التي تراه مناسبة لهم.

فلم يتغير الأمر في العمق وإن طرأت تغييرات على الشكل وتعددت قنوات الإعلام العمومي، ولعل هذا ما دفع الكائن المغربي إلى هجرانها والهجرة صوب فضاء الله الواسع الذي لا حاد لقنواتها عددا وتنوعا.. فضاء لا تطاله يد وزير الاتصال «القصيرة» ولا اليد الخفية والطويلة للسلطة.. فضاء لا يعترف بالوصفة الكيميائية العجيبة لهذا الوزير الذي يخلط فيها بشكل عشوائي، مثل كيمائي مبتدئ، الأخلاق والإبداع، ويريد من خلالها تكريس الرقابة وتقييد الإبداع (في التلفزيون أولا، ثم السينما، فمجالات الإبداع الأخرى) 

صحيح أن «الرقابة سلطة لا تنفك تعدل أداوتها وأساليبها وتجدد صورها»، كما كتب المفكر عبد السلام بنعبد العالي مرة. فإذا كانت في الماضي تتخذ هيئة فجة، فإنها اليوم تحاول أن تجعل «الأخلاق» حصان طروادة لمواصلة تقييد حرية الإبداع، وللاستمرار في تحنيط الفكر وتخشيب اللغة بدل تحريرهما وجعلهما ينطلقان بكل حرية في فضاء الإبداع.

شارك المقال

شارك برأيك