مِن "خطاب الإصلاح" إلى "إصلاح الخطاب"!

09 فبراير 2023 - 18:56

عندما تقرأ أو تسمع لخطاب بعضِ « دُعاة الإصلاح » قد تفهم أو تستنتج أن المجتمعَ هو موضوعُ « الإصلاح » والمعنيُّ به. أمّا هُم فغيرُ مَعنيِّين به أصلا وليسوا موضوعًا له؛ بل هُم أدواته التي بدونها لن يتحقَّق أيُّ إصلاح؛ لأن هؤلاء قد يعتقدون أنه لا تُصيبهم ما يُصيبُ المجتمعَ من « أمراض مناعية » وغير « مناعية »!

ويغيبُ عن هؤلاء أنّه كما أنَّ هناك أمراضًا عضوية مُعدية فهناك كذلك « أمراض » اجتماعية مُعدية قد لا يسلم منها أحد.

إنَّ بعض الجماعاتِ الإصلاحيّة تَستبطنُ في لاَوعيها -ورُبّما في وعيها- فِكرةَ أنّ المجتمعَ والدولةَ هُما موضوعَا الإصلاح أمّا هيَ فهيَ النّموذج؛ ومن هنا أرى أن هناك حاجة ملحة للانتقال من « الدعوة إلى الإصلاح » إلى إصلاح « الخطاب الإصلاحي »؛ وذلك من خلال الوعي بمجموعة من المفاهيم المرتبطة بعملية الإصلاح. سأجملها في العناصر التالية:

 

أولا: إصلاحُ الفرد أم إصلاحُ البُنَى؟!

يعتقدُ البعضُ أن إصلاحَ الفرد (أو الأفراد فردا فردا) هو السبيل إلى إحداث تغيير ما في مجتمع ما، وأنَّهُ إذا صلحَ الفردُ صلحَ معه المجتمع تلقائيا!

ظاهريا، يبدو هذا الكلام منطقيا؛ لكن عندما نتعمق في الأمر سنجد أن المجتمع ليس -فقط- عبارة عن أفراد، وإنما هو أيضا بُنى (بنيات) ثقافية واجتماعية…؛ وهذه البُنى مشَكّلة منْ جملة منَ العلاقات والشبكات… وبالتالي فإن إصلاح واقع الأفراد دون استحضار دور هذه البُنى لن يحدث أي تغيير إيجابي داخل المجتمع.

فلا بد من الوعي بأن الإصلاح ليس فرديا فقط؛ وإنما هناك أبعاد جماعية (واجتماعية) لعملية الإصلاح؛

وقد يكون لهيمنة قيم الفردانية في الواقع المعاصر أثرٌ في غلبة (تغليب) البعد الفردي في تمثّل ماهية الإصلاح!

 

ثانيا: تحديدَ التحديات الحقيقية -لا المتوهّمة- التي تواجهُ الإسلامَ في اللحظة الرّاهنة

مِنْ بين التحدّيات التي تواجهُ الدّيانات السماوية -الإسلام بشكل أكبر- في الوقت الراهن ما يُمكنُ تسميته أو التعبيرُ عنه ب: « التوجُّهُ نَحوَ مُمَارسةِ الرّوحانيات بِمَعزلٍ عن الأعباءٍ أو التكاليف الشرعية الدّينية »؛ وهي بشكل أو بآخر « أديانٌ بدون إلَه »!

ويتمتّع هذا التوجّهُ بجاذبية كبيرة خاصّة لدى أولئك الذين خبروا نموذج الحداثة الغربية من الداخل؛ فاكتشفوا الثمن الروحي والأخلاقي والإنساني الباهظ لهذا النموذج… ويبحثون عن روحانيةً منسجمة مع طبيعتهم الإنسانية! لكنهم في نفس الوقت لا يُريدون:

– إحداثَ قطيعة حقيقية مع الأصول الفلسفية المؤسِّسة لنموذج الحداثة الغربية.

– رُوحانياتٍ منبثقةً من الوحي؛ لأن الدِّين كما استقرّ في ذاكرتهم التاريخية والحضارية الجمعيّة يُذكّرهم بالويلات التي عاشوها فترة الصراعات والحروب الدينية الطويلة.

ويُشكّلُ هذا الوضعُ جزءً من المأزق الذي يعيشه الإنسان المعاصر.

ولا بأسَ مِنْ أجل إدراك هذا التحديد من الانفتاح والاستعانة بالباحثين غيرِ المسلمين الذين يؤمنونَ بمركزية الدّين في إضفاء المعنى على الحياة، ويقفونَ ضدّ تَشييء الإنسان، وخبروا النموذج الحضاري الغربي المعاصر من الداخل، وتتميز مقارباتهم بالدِّقة.

 

ثالثا: الفطرةُ جوهرُ النموذج الإصلاحي البديل!

يَجبُ ألا يقتصرُ خطابُ النُّخبِ المسلمةِ -في الوقت الحاضر- على بَيانِ وإقناعِ العالَم بجدوى الإسلام وأسسه وفلسفته في الحياة مقارنةً بالنموذج الغربيِّ المعاصر، أو تأكيد أنَّ هذا الأخير أقلُّ شأنًا معرفيًّا وقيمةً أخلاقيَّةً من النموذج الإسلامي؛ بل المطلوبُ من هذه النخب أن تُبيّنَ للعالَم بالحكمة والتي هي أحسن أنَّ النموذجَ الغربيَّ المهيمِن -في صيغته الرّاهنة- مُخالِفٌ للفطرة الإنسانية السَّويَّة!

يتطلب هذا الأمرُ الاشتغالَ على بيان ماهية « الفطرة » و »الفطرة السّوية » و »جوهر الإنسان »، وفي هذا السياق لا بدَّ من:

– استثمار الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في استخراج رؤية الإسلام للفطرة وعلاقتها بجوهر الإنسان، ثم تجريد هذه الرؤية من خصوصياتها الإسلامية لِبناء نموذجٍ معرفيٍّ حول الفطرة والجوهر الإنساني!

– الاستفادة من الاتجاهات الفكرية والفلسفية (دعاة العولمة البديلة مثلا) التي تقف ضد النماذج « المعادية » للإنسان والتي تقوم بتَسليعِ الحياة وتَشيِيء الإنسان من أجل تقويَّة الرؤية والأسس التي يقوم عليها النموذجُ البديل!

 

رابعا: صيانةُ النّفوس قبل تأويل النصوصَ!

عندما أتأمّلُ بعضَ الجدالاتِ المعاصرةِ لأهل العلِم من العلماء والباحثين والمصلحين؛ والتي يَحضرُ فيها انتصارُ المرء لنفسه وهواه ولَيُّ « أعناقِ » النّصوص لتُوافق الرأيَ والمعتقدَ الخاص…، ويغيبُ فيها تواضعُ العلماء واحترامُ رأيِ المختلف والتمييزُ بين الشخص والفكر.

عندما أتأمَّلُ هذا الوضعَ تظهرُ لي الأهميةَ الكبيرةَ والملحّة لِما اصطلحَ عليه العلماء الأقدمون ب « صيانة النفس »؛ فهذا الشافعي رحمه الله يقول: « مَن لم يَصُنْ نفسَهُ لم ينفعهُ عِلمُه ».

وليس هناك في رأيي أجمل وأدق من قول المَاوَرْدِي رحمه الله في هذا الباب: « وَلَعَمْرِي إنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ أَصْلُ الْفَضَائِلِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَهْمَلَ صِيَانَةَ نَفْسِهِ ثِقَةً بِمَا مَنَحَهُ الْعِلْمُ مِنْ فَضِيلَتِهِ، وَتَوَكُّلًا عَلَى مَا يَلْزَمُ النَّاسَ مِنْ صِيَانَتِهِ، سَلَبُوهُ فَضِيلَةَ عِلْمِهِ وَوَسَمُوهُ بِقَبِيحِ تَبَذُّلِهِ ».

وبهذا تكون صيانةُ النّفس المدخلَ الضروريَّ الذي يجعل العِلمَ (وأي حركة تدعي استنادها إلى العلم) يؤدي رسالته النبيلة في الحياة حتى لا يُفضي إلى شقاء البشرية بل يكون رحمةً لها!

 

خامسا: لا إصلاح بدون مؤسسات ثلاث!

ثلاث مؤسسات لا يُتصوّر إصلاحٌ وتنظيمٌ -من الوجهةِ الإسلاميَّةِ- بدونها: « مؤسسة الأسرة »، و »مؤسسة الأرحام »، و »مؤسسة الجِوار »!

يكفي أن نتأمّل الكمّ الهائل من النصوص القرآنية والنبوية التي وردت بخُصوصها لندرك محوريّتَها في المنظومة الإسلامية. وهذه المؤسسات ليست أشكالا علائقية فقط وإنما هي أيضا بنياتٌ ثقافيةٌ تنقلُ وتحافظُ على القيم التي تمنح معنىً لوجودها. وكل هذه المؤسسات تقف عائقًا يحول دون تمدّد النماذج التي تُعلي من قيمة الفرد على حساب الجماعة والقيم الجماعية.

ولذلك كان من شروط سيادة النموذج الرأسمالي مثلا « تحطيم » البنيات الثقافية التقليدية والتعامل مع المجتمع باعتباره مجموعة من الأفراد لكل واحد أفقُه وهواه ومتطلباته بمعزل عن البنيات التي ينتمي إليها؛ حتى يسهلَ الوصولُ إليه ثم « ابتلاعه ».

وإنَّ أيَّ مشروعٍ إسلاميٍّ لا يجعل من هذه المؤسسات الثلاث منطلقا لعمله هو مشروعٌ لا يتناغم مع منطق وروح وفلسفة الإسلام.

والاهتمام بهذه المؤسسات يقتضي بلورة خطابٍ معاصر يجيب عن التحديات التي تستهدف « الأسرة » و »الأرحام » و »الجوار ».

وفي هذا الإطار تندرج تحديات من قبيل: الليبرالية المتوحشة، والبيوتيقا، والجندر، والفردانية، والنزعة الاستهلاكية.

سادسا: مركزية الاختلاف والتعدد في التجربة الإصلاحية الإسلامية!

لم يقرأ التاريخَ -بل لا يستحيي- من يُشهر ورقة « الموقف من الاختلاف والتعدد » في وجه المُتديّن المسلم الذي يقف على الأرضية الإسلامية ويرى في الإسلام مشروعا حضاريا!

وإشهارُ هذه الورقة هدفه التقليل من أهمية ومركزية الاختلاف والحرية في التجربة الحضارية الإسلامية. وهذه مغالطة مُغرضة.

الحضارة الإسلامية هي نتاج ارتباط وثيق بنصوص قرآنية تنظر إلى الاختلاف والتعدد باعتبارهما معطى موضوعيا وليس شيئا طارئا!

بل لم تعرف حضارة تضخما على مستوى التنوع الثقافي والتعدد الفكري كما عرفته الحضارة الإسلامية في تجربتها التاريخية؛ فالواقع الفقهي والفلسفي والعمراني الإسلامي يشهد بوجود احترام تام لمختلف التوجهات الفقهية والفلسفية والعمرانية المختلفة.

فإذا أخذنا على سبيل المثال المجال الفقهي فإننا نذهل من كثرة التفريعات والآراء الفقهية في العبادات والمعاملات وفي السياسات الشرعية…

فنجد داخل المذهب الفقهي الواحد الذي يسترشد بمنهج أصولي موحد آراء مختلفة بل ومدارس داخل المذهب الواحد.

ونفس الشيء ينطبق على المجالات الحضارية الأخرى من فلسفة واجتماع وفن وعمران…

طبعا قد تكون هناك استثناءات ضاقت بالاختلاف والتعدد، لكن أثناء التأمل فيها نجد أن لها سياقاتها الخاصة التي تكون غالبا مرتبطة بأوضاع سياسية معينة وبضرورات أملتها توازنات سياسية.

وبشكل عام لم تكن الحضارة الإسلامية حضارة التنميط الثقافي للإنسان والمجتمع، وإنما كانت حضارة الاختلاف والتعدد.

لكن أيضا لم تكن الأبعاد المتعلقة بالاختلاف والتعدد في التجربة الإسلامية بدون أرضية صلبة تستند إليها، بل كانت تتم في إطار رؤية موحدة وثوابت تمنح لهذه الحضارة هويتها وتميزها الخاص.

 

سابعا: من أجل خطاب إصلاحي يؤسس للتعارف بين الناس والحضارات!

تضمّنتْ سورةُ « الحجرات » مجموعة من الأساسيات والقواعد التي تساعد على الاحترام المتبادل بين الثقافات والحضارات المختلفة؛ إذ تضمنت النهيَ عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب والغيبة وسوء الظن والتجسس والاقتتال… كما تضمنت أيضًا الحثَّ على التعارف بين الشعوب المختلفة والعدل والقسط والأخوة والإصلاح والتبيّن والتثبت…

ولهذا سُمّيت هذه السورة بحق « سورة الأخلاق ».

وأشير إلى أن هذه الأخلاق والأساسيات لا تتعلق بالأفراد فقط وإنما تتعلق أيضا بالجماعات والحضارات والمؤسسات والنُّظم المختلفة؛ ومن الخطأ أن ينصرفَ الذهنُ أثناء قراءة الآيات المتعلقة بالأخلاق إلى الفرد فقط دون استحضار أبعادها الجماعية والمؤسساتية!

فالسخرية مثلا ليست سخريةَ فرد من فرد فقط. وإنما قد تكون سخريةً منظَّمة في مؤسسات (كالمؤسسات الإعلامية) ويتم التأسيس لها عَبْرَ مجموعة من القواعد والنُّظم. وهكذا بالنسبة لمختلف الأخلاق والقيم التي تضمنتها الآيات القرآنية المختلفة!

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي