صرخة أكادير: حين يصبح المستشفى بوابة خوف.

15 سبتمبر 2025 - 12:35

ما حدث أمام مستشفى الحسن الثاني في أكادير ليس واقعة موضعية عابرة، بل مشهد مكثّف لأزمة بنيوية تتفاعل على نار هادئة داخل المنظومة الصحية المغربية، حيث خرج مواطنون وفاعلون مدنيون في وقفات احتجاجية رغم محاولات المنع والتفريق، مردّدين شعارات تُحمّل المؤسسة العمومية مسؤولية انهيار الخدمة وتطالب بإنقاذ الحق الدستوري في العلاج الكريم. إن توصيف المستشفى بـ“مستشفى الموت” في الوجدان المحلي ليس مجرّد مبالغة احتجاجية، بل عنوان على فقدان الثقة وتآكل الأمان الصحي اليومي، وهو ما يجعل الغضب اجتماعياً بامتياز لا فئوياً ولا قطاعياً.

ترافق ورش التغطية الصحية الشاملة مع سياسة معلنة للتكامل عام-خاص، تحوّلت عملياً إلى فتح الأبواب أمام توسّع سريع وواسع للاستثمار الخاص في العلاج، مع ترخيص عشرات المؤسسات الخاصة خلال فترة وجيزة وتثبيت مقاربة تعتبر الفاعل الخاص رافداً رئيسياً للعرض الصحي الوطني. على الورق، تَعِد هذه السياسة بعقلنة الخريطة الصحية وتقليص الفوارق المجالية، لكنها على الأرض أطلقت سباق توسّع غير مسبوق لشبكات المصحات، فيما بقيت أعطاب المرفق العمومي على حالها أو ازدادت حدّة تحت ضغط الطلب.

القطاع الخاص الصحي، وفي مقدمته سلسلة أكديطال المهيمنة، يعيش طفرة توسّعية بأرقام أسِرّة ومؤسسات جديدة وخطط تغطية ترابية شاملة، مقرونة بنمو لافت في رقم المعاملات وارتفاع في الدين للاستثمار والتجهيز والتواجد الجهوي والخارجي. هذا التمكين البنيوي جعل القطاع الخاص فاعلاً حاكماً في الولوج للعلاج عالي التقنية مع تصاعد شكاوى العموم من غلاء الفوترة وفجوة القدرة الشرائية، ما يُحوّل التأمين إلى صمّام لا يكفي وحده لامتصاص الصدمات المعيشية المرتبطة بكلفة المرض.

في مقابل أرقام رسمية عن عشرات الآلاف من ملفات التكفّل والإرجاع ضمن ورش الحماية الاجتماعية، تتناسل شهادات وانتقادات حول فواتير تضاهي أو تفوق طاقة الأسر حتى مع توفّر التغطية، حتى أضحت الجملة الشائعة بعد مغادرة المصحات  » شحال خلصتي ف la difference »، لتنشأ طبقة من “المؤمّنين غير القادرين” على الولوج الفعلي للخدمة داخل المصحات. تتكثّف إذن المعضلة حين يصبح المريض واقفاً أمام خيارين أحلاهما مرّ: خدمة عمومية متعبة ومكتظة ومواعيد متأخرة، أو خدمة خاصة مرهقة جيباً، وهو مزيج يولّد إحساساً بالعجز والإقصاء في لحظة هشاشة إنسانية قصوى.

المنظومة العمومية فقدت تدريجياً دورها كضامن للحد الأدنى من الجودة والتكافؤ، ومع كل حادثة وفاة في أقسام حرجة أو اكتظاظ خانق تتراجع شرعية الدولة الاجتماعية في أعين الناس، ويتحوّل القصور الإداري واللوجستي إلى أزمة ثقة وطنية. أكادير هنا ليست استثناءً، بل مرآة لجهة تستقبل ضغطاً جهوياً واسعاً من سوس ماسة وحتى الأقاليم الجنوبية، ما يجعل أعطاب البنية والتجهيز والموارد البشرية تتفاقم بأثر تراكمي يومي.

حين تتقاطع كلفة العلاج الباهظة مع هشاشة العرض العمومي، يصبح الأمن الصحي مدخلاً مباشراً لمسّ السلم الاجتماعي، لأن المرض لا ينتظر تشريعاً ولا بياناً توضيحياً، بل سريراً وأكسجيناً وطبيباً وممرضة في الوقت المناسب. احتجاجات أكادير تُقرأ كإنذار مبكر بأن “خصخصة الواقع الصحي” دون حماية عمومية صلبة وقواعد تسعير منصفة في القطاع الخاص يمكن أن تدفع الهشاشة الصحية إلى الشارع، وتحوّل الألم الفردي إلى مطلب جماعي نافذ.

الحل ليس في الشيطنة ولا في الهروب إلى الأمام، بل في عقد صحي جديد يُعيد ترتيب الأولويات: تمويل مستدام للمرفق العمومي، تسقيف واضح لتكلفة الخدمات الحسّاسة في الخاص، وتفعيل شراكات مشروطة بالمصلحة العامة وجودة قابلة للقياس. المطلوب آليات مراقبة مستقلة للوفوترة والجودة، وربط الترخيص والتوسّع بمؤشرات إدماج اجتماعي وخدمة جهات الهشاشة، مع تسريع تأهيل المراكز الصحية الأولى لتخفيف الضغط على الاستشفاء.

إن ما انطلق في أكادير ليس مجرد وقفة، بل بداية منحنى جديد لقلق اجتماعي متزايد حول معنى الحق في الصحة وحدود السوق في علاج الألم الإنساني، ومن الحكمة التعامل معه كأولوية أمن اجتماعي قبل أن يصبح مأزوماً ومستعصياً. دولة الرعاية لا تُختبر بالشعارات ولا بعدد الافتتاحات، بل بقدرة المستضعف على دخول باب المستشفى مطمئناً والخروج منه معافى دون أن يفرّغ جيبه أو ترهق كرامته، وهذه هي البوصلة التي ينبغي أن تعود إليها السياسات الصحية اليوم قبل الغد.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *