من غوادالاخارا… تأملات في زمن الرقمنة والمسؤولية القانونية

في مدينة غوادالاخارا المكسيكية، حيث التاريخ يلتقي بالحداثة، وحيث تمتزج ملامح الأصالة الأمريكية اللاتينية بروح الانفتاح الكوني، كان النقاش القانوني هذا الصباح حول موضوعٍ بالغ الأهمية: التحوّل الرقمي في العمل البنكي وما يثيره من تحديات أخلاقية وقانونية، في زمنٍ باتت فيه التكنولوجيا تختصر المسافات، لكنها تفتح في المقابل منافذ جديدة أمام الاحتيال والتهديدات العابرة للحدود.

في هذا السياق، جاءت مداخلة الزميل العزيز الأستاذ طارق زهير لتضعنا أمام مرآة الواقع المغربي، من زاويةٍ تجمع بين النقد والتحليل، مسلّطةً الضوء على رهانات الرقمنة في قطاع العدالة، وعلى التحولات التي تشهدها المنظومة القانونية في ظل صراعٍ غير متكافئ بين سرعة التطور التكنولوجي وبطء الآليات التشريعية والإدارية في مواكبته. وقد شدّد الأستاذ زهير بحقّ على أن المغرب يعيش مرحلة دقيقة من إعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسساته، وأن هذه الثقة لا يمكن أن تتعزز إلا بتفعيل حقيقي لمبدأ الأمن القانوني والرقمي في كل ما يتصل بالمعاملات، خاصةً البنكية والمالية منها.

ثم جاءت المداخلة الثانية، التي قدّمها خبير قانوني سويسري، لتعمّق النقاش وتمنحه بعدًا عمليًا دوليًا. تحدث عن تجربته حين عُيّن مصفِّيًا لبنكٍ رقميٍّ في سويسرا يضم أكثر من 22 ألف حساب إلكتروني تم فتحها عبر تطبيقات دون أي تواصل مباشر مع الزبناء. تجربة كشفت عن الوجه الآخر للرقمنة: مئات الحسابات الوهمية، وهويات مسروقة، وأموال تتنقّل بسرعة الضوء بين القارات دون أثر مادي. اكتشف الفريق أن العديد من أصحاب الحسابات المزعومين لم يكونوا سوى ضحايا، أو وسطاء لا يعلمون أنهم يخدمون شبكات غسل الأموال عبر ما يُعرف بـ money mules.

ما عرضه هذا المتدخل يعيدنا، نحن أبناء المهنة القانونية، إلى جوهر السؤال: إلى أي حدّ يمكن للذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية أن تخدم العدالة والأمن المالي دون أن تتحول إلى أدوات لتقويضهما؟

في التجربة السويسرية التي استعرضها، تَبيّن أن الرقمنة غير المنضبطة تخلق ثغرات قانونية خطيرة، إذ يصبح التحقق من هوية العميل عملية افتراضية يمكن التحايل عليها بسهولة. ويكفي، كما قال، أن تُشترى هوية مزوّرة على “الدارك ويب” لتُفتح بها حسابات وتُنفذ عمليات مالية ضخمة دون أن تُثير أنظمة المراقبة أي إنذار، لأن الخوارزميات تتابع الأرقام، لا الوجوه.

لقد بيّن بوضوح أن الخطر لا يكمن في التكنولوجيا ذاتها، بل في غياب التوازن بين الحرية الرقمية والمسؤولية القانونية. فالبنوك الرقمية تريد تسهيل الخدمات وتسريعها، لكنها إن شدّدت الرقابة بشكل مفرط عرقلت ملايين العمليات اليومية، وإن تساهلت فتحت الباب أمام المجرمين الماليين. وهنا تكمن المفارقة التي تواجهها الأنظمة القانونية في كل الدول، بما فيها المغرب: كيف نؤسس رقمنة مسؤولة، تضمن السرعة والمرونة، وتحمي في الآن ذاته المال العام وثقة المتعاملين؟

من هنا، تبدو مداخلة الأستاذ زهير أكثر راهنية، إذ تدعو إلى ترسيخ ثقافة قانونية رقمية مغربية تأخذ بعين الاعتبار خصوصياتنا المؤسسية والاجتماعية. فالمشكل ليس في نقل التجارب، بل في توطينها بذكاء. نحن بحاجة إلى تحديث القوانين البنكية والمدنية والتجارية بما ينسجم مع التحولات الرقمية العالمية، دون أن نفرّط في القيم التي تحكم علاقتنا بالمجتمع، وعلى رأسها مبدأ حماية الثقة.

لقد أصبح من الضروري أن نعيد التفكير في مفاهيم كلاسيكية مثل “الهوية”، “الموطن”، “الإثبات”، و“الرضا”، وهي مفاهيم كانت حتى الأمس القريب مرتبطة بالمكان والزمان والوجود المادي، لكنها اليوم تُعاد صياغتها في فضاءٍ افتراضيٍّ لا يعترف بالحدود. فالهوية أصبحت رقمًا، والرضا نقرةً على شاشة، والعقد توقيعًا إلكترونيًا، والمخاطر لم تعد محلية بل عابرة للقارات.

في المقابل، لا يمكن للمشرّع المغربي أن يظل أسير الرؤية التقليدية التي تفصل بين القانون والتكنولوجيا. فالقانون اليوم لم يعد أداة تنظيم فقط، بل أصبح نظامَ ذكاءٍ مؤسسيٍّ ينبغي أن يتفاعل مع التغيرات الرقمية بنفس السرعة التي تنتجها. وهذا يتطلب من الدولة، ومن المؤسسات المالية والهيئات المهنية، استثمارًا في الذكاء القانوني يعادل استثمارها في الذكاء الاصطناعي.

فالذكاء القانوني هو الذي يضمن أن لا تتحول الرقمنة إلى فوضى، وأن تظل التكنولوجيا خادمة للإنسان لا متحكمة فيه.
ومن دون هذا الذكاء المؤسسي، سنجد أنفسنا كما وصف المتدخل السويسري “في مواجهة آلاف التنبيهات الرقمية في الساعة الواحدة، دون قدرة بشرية على التمييز بين الحقيقي والمزيف”.

تجربته تلك تعلّمنا أن الحل ليس في المنع ولا في الانبهار، بل في التنظيم الذكي الذي يمزج بين المراقبة التقنية والتحليل البشري، بين الخوارزمية والعقل القانوني.

إن ما يجري في سويسرا اليوم من مراجعة شاملة لإجراءات التحقق البنكي، يفرض علينا في المغرب أن نسائل أنفسنا: هل نملك ما يكفي من الأطر القانونية والتقنية لمواجهة نفس التحديات عندما نصل إلى مرحلة بنوك رقمية خالصة؟ وهل مؤسساتنا المالية مستعدة فعلاً لرقابة رقمية آنية ومتواصلة دون أن تمسّ بحقوق الأفراد وحرياتهم؟

تلك الأسئلة تظل مفتوحة، لكنها ضرورية، لأن مستقبل العدالة والاقتصاد الرقمي في بلادنا سيتوقف على قدرتنا في الجمع بين السرعة والدقة، وبين الانفتاح والحذر.

لقد غادرتُ قاعة المؤتمر وأنا مقتنع أكثر من أي وقت مضى بأن الثورة الرقمية في المجال البنكي والقانوني ليست مجرد تحوّل تقني، بل ثورة في فلسفة المسؤولية. فالمجتمع الذي يتعامل مع الأرقام بدل الأشخاص، يحتاج إلى قيمٍ جديدة تؤطر هذه السرعة الجامحة، وإلى وعيٍ قانونيٍّ يضمن أن لا يُستغل التقدم التقني لزرع الاضطراب بدل الأمان.

وفي النهاية، يبقى السؤال الأكبر مطروحًا علينا جميعًا، كمحامين وقضاة ومشرّعين وباحثين:
هل سنكتفي بتفسير القانون في ضوء الماضي، أم سنجرؤ على صياغة قانون المستقبل؟

من غوادالاخارا، أعود بهذه القناعة:
أن المستقبل لن يكون لمن يملك التكنولوجيا فقط، بل لمن يُحسن تسخيرها بعقلٍ قانونيٍّ إنسانيٍّ راشد.

 

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *