"داعش" ... تنظيم أم ظاهرة ؟

11 سبتمبر 2014 - 15:55

خلال اللقاء الذي جمع مؤخرا وزراء الخارجية العرب في القاهرة بهدف التشاور حول ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية، حذر وزير الخارجية المغربي السيد صلاح الدين مزوار في مداخلته من جيوش المهمشين و الناقمين الذين يتزايدون عددا و جودة باطراد في بلاد العرب لأسباب لا تخفى على أحد. يبدو للوهلة الأولى أن ما طرحه السيد مزوار في اجتماع خصص للتباحث حول الأحداث العسكرية التي تعصف بالعالم العربي موضوع ثانوي أو قضية موازية تطرق لها الوزير بهدف أخدها بعين الاعتبار مستقبلا أو إدراجها في جدول الأعمال القادم. و الحقيقة أن السيد الوزير يعي جيدا أن هؤلاء المهمشين و المقصيين من المجتمعات العربية هم المغذي الرئيسي للتنظيمات المسلحة، بحيث أن جميع الأحداث التي توالت علينا في السنوات و الشهور القليلة الماضية تشير إلى أن ظهور و اتساع رقعة التنظيمات المسلحة عبر العالم اقتصرت على الدول التي تعرف إقصاء ممنهج  لشريحة عريضة من أطياف المجتمع  ترعاه مؤسساتها الرسمية و بتنفيذ من أجهزتها الإدارية و الأمنية.

فبالنظر إلى جل التنظيمات المسلحة التي طفت على السطح مؤخرا، و أخدا بالاعتبار ظروف نشأتها، نجد أن خلفياتها و مبادئها مختلفة لحد التضارب، إلا أن ما يجمعها عنصرين أساسيين. الأول، يتمثل في الدعم اللوجستي و العسكري الخارجي، و الثاني، و هو الأهم، يتمثل في معاناة المنخرطين في هذه التنظيمات، و من ورائهم ذويهم و عشيرتهم، من أقصاء طال أمده، سواء من ناحية المشاركة السياسية أو الحياة العامة. فأبناء العراق و سوريا المنتسبين إلى داعش هم من السنة و يشكون غلو الأغلبية الشيعية و حلفاءها العلويين المحتكرين للسلطة في بغداد و دمشق. و البشمركة الكردية تأسست بفعل تسلط نظام صدام السني و قمعه لكل ما هو كردي في الأصل. و الحوثيون حملوا السلاح أيضا لعله يخولهم حجز مقعد فاعل في اللعبة السياسية اليمنية بعدما أقصوا منها طوال التاريخ الحديث لليمن. نفس الشيء ينطبق على الانفصالييين الروس في شرق أوكرانيا و شبه جزيرة القرم الذين نهضوا على حين غرة ليضعوا حدا للتمييز الذي يمارسه الأوكرانيون “الأقحاح” ضدهم، و ينطبق كذلك على نيجيريو بوكو حرام في شمال البلاد و الذين قبعوا تحت تهميش و إقصاء السلطة المركزية حتى أصبحت المناطق الشمالية المسلمة و الغنية بالموارد الطبيعية بفعل ذلك الأفقر في البلاد. و أزواد مالي العرب الذين لم تأتهم بصة أمل من باماكو تغنيهم عن حمل السلاح للدفاع عن جدورهم و صون ثقافتهم. كل هذه الأمثلة و أخرى تدل، بما لا يدعو للشك، على أن داعش أكبر من أن يختزل في تنظيم. فالأمر يتعلق بظاهرة طبيعية و حصرها في تنظيم أو منطقة أو قومية بعينها يعتبر خطأ فادحا ينم عن قصر نظر. كما أن محاربة هذه الآفة من منظور عسكري دون العمل على اجتثاث عواملها و أسبابها ستكون له عواقب وخيمة على الدول المعنية في المقام الأول و السلم العالمي في مرحلة ثانية.

إن ما تطرق له السيد مزوار بخصوص قضية التهميش و الإقصاء المستشري في العالم العربي للب الموضوع بامتياز. كما أن نعته  للمهمشين ب”جيوش” وصف في محله، إذ أن كل فرد ناقم مرشح لأن ينخرط في صفوف المسلحين إذا توفرت الظروف و الفرصة لذلك. فلو لا جيوش المهمشين و الناقمين من أبناء العشائر السنية في العراق و سوريا لما قامت لداعش قائمة، و لو لاهم لما جرأ مغرور به قادم من الخارج على وطأ قدمه في ديارهم. فكيف يعقل أن يدخل زمرة من الدواعش الأجانب مدينة الفلوجة لو لم تكن الظروف السالفة الذكر متوفرة، في حين عجز الغزاة الغربيون على دخولها بالرغم من كل ما يتوفرون عليه من إمكانيات عسكرية و لوجستية متطورة.

مؤخرا صرح مسؤول سامي في الإدارة الأمريكية أن داعش لا تمثل تهديدا للولايات المتحدة. هذا التصريح عززه بطريقة غير مباشرة الرئيس الأمريكي قبل بضعة أيام عندما أقر بأن واشنطن لا تملك إستراتيجية لمحاربة التنظيم. و هذا يدل على أن داعش لا تمثل فعليا تهديدا حقيقيا للغرب، بل و لم ينظر إليها يوما كتنظيم أو ميليشيا، و إنما ظاهرة تغذيها عوامل غير متواجدة في العالم الغربي، بل و متضاربة مع سياساته الداخلية المتشبعة بمبادئ العدالة و سيادة القانون و حماية الأقليات. و بالتالي نجاح داعش في التوغل إلى الدول الغربية أمر مستحيل. من هذا المنطلق، كانت المبادرات التي دأب الساسة الغربيون على إطلاقها بخصوص تنظيم الدولة مقتصرة في مجملها على قطع الطريق أمام المقاتلين الأجانب المستعدين للقيام بضربات فردية أو خلوية في أوروبا و أمريكا على العودة. هذا الأمر بدى واضحا من خلال التحرك الأخير للإدارة الأمريكية في أروقة الأمم المتحدة لحشد الدعم و إصدار قرارات أممية تمنع عودة الداعشيين “العالميين” لأوطانهم الاعتيادية و محاصرتهم خارجها.

الآن، و بعد أن أصبح لأمريكا – بقدرة قادر – إستراتيجية  للتصدي لداعش و بعد أن حصلت على تفويض موسع من المحور العربي الذي شكل مؤخرا كما جاء على لسان أوباما قبل يومين، طفت أكثر من علامة استفهام على السطح حول النجاعة و الآليات و الخطط و مصدر الموارد التي ستخصص لإسقاط الاستراتيجية المزعومة على أرض الواقع. لكن الجلي و المحزن في الأمر برمته، هو أن العرب أبوا إلا أن يعتبروا “داعش” تنظيما أعزلا أكثر منه ظاهرة عامة استفحلت جراء السياسات القمعية و التمييز الطائفي و الفساد الاقتصادي المستشري، في تعنت مدمر لن يحد من تمدد التنظيم كما مأمول، بل سيؤدي سواء إلى توالده في بؤر أخرى أو إلى تبدله (Mutation) لكيان أكثر فاعلية و ضراوة، تماما كما تفعل الفيروسات عندما تعجز أو تتأخر المختبرات العلمية في إيجاد اللقاح الصحيح لمحاربتها…. و تنظيم الدولة فيروس أيضا لكنه عنيد، إسمه التجاري “داعش” بينما إسمه العلمي “الإقصاء و التهميش”.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي