رحيل الفقيه موريس دوفرجيه

12 يناير 2015 - 17:47

لم ينحصر صيتُ الفقيه «موريس دوفرجيه» في بلده فرنسا، بل امتد إلى بلدان كثيرة، وفي مقدمتها المغرب..فالراحل الذي فارق الدنيا في السابع عشر من دجنبر 2014، وقد قضى سبعا وتسعين عاما من عمره، ترك تراثا فقهيا جديرا بالاحترام في حقلي القانون الدستوري والعلوم السياسية، ولعله من أوائل من تنبهوا إلى الحاجة المنهجية إلى تكامل القانون الدستوري وعلم السياسة. والواقع أن حضور هذا الفقيه لم يكن بارزا لدى الباحثين الأكاديميين ممن لهم علاقات معرفية بحقل اشتغاله، بل كان أليفا لدى غيرهم ممن امتهنوا السياسة، خصوصا في الثلاثين سنة الأولى التي أعقبت استقلال المغرب، حين كان يُردد اسم «موريس دوفرجيه»، كلما فُتح  النقاش حول المسألة الدستورية، وتصاعدت نغمة النقد حول كتابة الدستور تحديدا.

من المصنفات ذات القيمة التأسيسية التي تركها «موريس دوفرجيه»، كتابه «الأحزاب السياسية»، الصادر عام 1951، الذي أعيد طبعه تسع مرات، وترجم إلى عشر لغات، ومنها العربية. وكذلك مؤلفاته المرجعية، من قبيل : «مدخل إلى علم السياسة» [1964]، و»الملكية الجمهورية»، و»الديمقراطية بدون الشعب» [1967]. وعبر كل هذه المصنفات ذات القيمة المعرفية المتميزة، يلمس القارئ قدرة الفقيه على صياغة نصوص موسومة بدرجة عالية من العمق العلمي، وفي الآن معا مطبوعة بالسلاسة ويُسر الفهم. والحقيقة أن تواتره على نشر مقالات منتظمة في جريدة «لوموند»، ساعد على تقريب أفكاره ونظرياته الدستورية والسياسية، على صعوبتها وجفائها، إلى شرائح واسعة من القراء في بلده، وفي مناطق عدة من المعمور.

 دأب الفرنسيون وغيرهم ممن تابعوا إنتاجات هذا الفقيه على تسميته «بابا» العلوم السياسية. ومما لفت انتباهي في ما كُتب عن رحيله في الشبكة العنكبوتية، قول بعض المُبحرين: «موريس دوفرجيه كاتب الدستور المغربي الأول»، أي الدستور التأسيسي لعام 1962. والحال أن في قولهم جانب من الصحة، وقدر من المبالغة. فبصمة «موريس دوفرجيه» في الدستور المغربي الأول حاصلة، ولا يجادل فيها اثنان، وهي في كل الأحوال بصمة لم تنل الدستور المغربي وحده، بل طالت كثيرا من الدساتير التي أعقبت ميلاد دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية [1958]. غير أن المبالغة تكمن في إيعاز صناعة دستور عام 1962 لهذا الفقيه، وكأن المغاربة لم تكن لهم يد في كتابة الدستور التأسيسي الأول.

 يُذكر أن المغرب شهد صراعا سياسيا قويا خلال الأعوام الستة التي سبقت وضع دستور 14 دجنبر 1962، وهو صراع تصدرت قضية كتابة الدستور أولوياته. ويستطيع من عاش فصول هذه الحقبة، أو قرأ عنها، الحكمَ على أن المسألة الدستورية كانت في قلب هذا الصراع. لذلك، لم يكن المغاربة بعيدين عن سياق كتابة الدستور التأسيسي. والأكثر من هذا، شارك عدد منهم في سيرورة بنائه من خلال عضويتهم في مجلس الدستور، وبقي آخرون خارج هذه السيرورة، معترضين على الآلية نفسها [مجلس الدستور]،  مطالبين بانتخاب جمعية تأسيسية، توكلُ إليها صلاحية وضع دستور للبلاد.. وفي النهاية حسم ميزانُ القوى التجاذبَ حول أسس إعادة الدولة بعد الاستقلال لصالح طرف، أي الملكية ومحيطها، على حساب الطرف الآخر، والحالة هنا الأحزاب سليلة الحركة الوطنية. 

  لاشك أن بصمة الفقيه «دوفرجيه» كانت واضحة في الفلسفة الدستورية التي حَكَمت وثيقة العام 1962، لاسيما في مفاصل الدستور ذات العلاقة بتوزيع السلطة، ومكانة المؤسسات الدستورية الثلاث، والآليات الدستورية الناظمة للعلاقات بين السلط. لكن ألم يكن «دوفرجيه» مجرد جهة استشارية، طُلبت خبرتُها ليس إلا؟ وأن دستور 1962، الذي ظل موضوع تنازع حتى 1996، هو حصيلة سياق مغربي، تحكم فيه منطق الغَلبة على ثقافة التوافق.. لا نتردد في الجزم، بعد رحيل هذا الفقيه، أن دساتير المغرب خرجت من عباءات المغاربة، وإن كان لغيرهم، كما هو حال الراحل دوفرجيه، قسمة ونصيب في الموضوع.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي