قال رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، في البرلمان أمام ممثلي الأمة: «يا عباد الله، ليس أنا من يحارب الفساد.. الفساد هو الذي يحاربني». هذا كلام صحيح مائة في المائة، عندما لا تحارب الفساد فهذا الأخير يشرع في محاربتك، أو بالأحرى عندما تكتفي بالشفوي في محاربة الفساد فهو يمر مباشرة إلى الفعل…
كل استطلاعات الرأي التي أنجزت خلال السنوات الثلاث الماضية، ورغم أن جلها كان في صالح بنكيران، فإن المستجوبين كانوا يلحون على الحكومة بضرورة محاربة الفساد، وكان الرأي العام، ومازال، يضع علامات سلبية للحكومة في خانة مكافحة الفساد، وهي الحكومة التي جاءت على ظهر شعار: «صوتك فرصتك لمحاربة الفساد والاستبداد»…
في آخر استطلاع رأي قامت به مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد في الذكرى الـ23 لوفاة القائد الاتحادي، قال أكثر من 80 في المائة من المستجوبين إنهم مترددون في الذهاب إلى صناديق الاقتراع لأن قلة نظافة وكفاءة المنتخبين تشغلهم كثيرا…
الفساد اليوم ليس مليارات توضع في جيوب الكبار، وملايين تذهب إلى حساب المسؤولين الصغار، وآلاف الدراهم تقتطع من ميزانية الفقراء لأعوان السلطة والمنتخبين، وجيش الرشوة الصغير المنتشر في كل ربوع الإدارات والجماعات المحلية والمستشفيات والكوميساريات والطرق والمعابر والجامعات… الفساد أكبر من هذا بكثير.. إنه نظام حكم وإدارة وسلطة واستثمار في المغرب، وهذا الوضع ليس وليد اليوم بل عمره من عمر الاستقلال، والإشكالات التي صاحبت تشكل الدولة بعيدا عن أعين الديمقراطية وأسس المشروعية السياسية الحديثة…
المشكلة أن الدولة في المغرب لا تحارب الفساد بل تتعايش معه، وتدمجه في كيانها، وأحيانا تشجعه، وأحيانا أخرى تأكل معه من الطبق نفسه وحول الطاولة ذاتها…
الفساد اليوم يعشش في قطاعات استراتيجية تدر الملايير من الدراهم على أصحابها. الفساد منتعش في العقار والتعمير ورخصهما واستثناءاتهما وإعفاءاتهما وتجاوزاتهما. الفساد مستشرٍ في عمليات تفويت أراضي الدولة التي توزع منها آلاف الهكتارات كل سنة بدون معايير مضبوطة ولا نزاهة ولا شفافية. الفساد معشش في الصفقات العمومية التي تفوت إلى الشركات الوطنية والأجنبية كل سنة (الدولة أول مستثمر في المغرب بأكثر من 80 مليار درهم)، وهنا نشير إلى أن حزب الفساد طور استراتيجية كاملة للإفلات من الرقابة على الصفقات العمومية، ولكم أن تسألوا عبد الحنين بنعلو عن أسرار هذه التكنولوجيا المتقدمة. الفساد موجود كذلك في برامج الدعم الكثيرة التي تخصصها الدولة لقطاعات معينة في فترات محددة. الفساد موجود كذلك في نظام التهرب من الضريبة على الشركات والأبناك والمؤسسات الكبرى. الفساد محصن في جسم القضاء عندنا، حيث أصبحت هناك سوق سوداء لبيع وشراء الأحكام «وعلى عينك يا بن عدي». الفساد له كوطا محترمة في النظام الانتخابي المغربي وفي الغرفتين وفي المجالس الجماعية من خلال نظام شراء الأصوات ونظام بلقنة الخارطة السياسية وإدخال الأعيان إلى السوق الانتخابية…
هذه هي الخطوط الكبرى للفساد، وطبعا هناك مستويات أخرى متوسطة وكبيرة. هذا الفساد ليس عدوا بليدا بلا أسنان ولا حلفاء ولا تخطيط ولا إيديولوجيا… أبدا، إنه فساد ذكي، نجح في تأمين مصالحه، ونسج تحالفات قوية، وأصبح يفاوض الجميع من موقع قوة.. جزء من الإدارة تحت يده.. الكثير من الأحزاب في صفه.. بعض النقابات في فراشه، وجل وسائل الإعلام حريم في مخدعه، أما القضاء فيعرف الطريق إليه. الفساد لا يأكل كل ما يقع في يده من مال حرام وريع غير مستحق.. إنه يستثمر الكثير من أجل تأمين وجوده، ويؤمن بحكمة: «كول ووكل».
مشكل حكومة بنكيران أنها جاءت تحمل سيفا لمحاربة الفساد، وتظن أنها ستبارزه في معركة مسايفة علنية أمام الناس، فيما الفساد أذكى من أن يظهر للعين المجردة، لهذا انحنى أمام العاصفة، وأول رد فعل قام به هو تعطيل الإدارة بدعوى الخوف من الوقوع في الأخطاء. كانت هذه هي الضربة الأولى، الثانية أن الفساد بدأ يحمي رموزه ويخرجهم من المحاكمات كالشعرة من العجين. في الخطوة الثالثة مر إلى الإعلام، وخلق عقدة لوزير العدل اسمها ازدواجية المعايير في تحريك دعاوى الفساد، وفي الخطوة الرابعة ظهر اجتهاد قانوني يقول بعدم جواز إحالة تقارير المجلس الأعلى للحسابات على النيابة العامة مباشرة. بعدها ظهر شعار: «الحزب الحاكم يستعمل القضاء لتصفية خصومه السياسيين»، مع أنه في المغرب المصباح ليس حزبا حاكما والقضاء ليس في يد الحكومة. ملف واحد نجح فيه بنكيران هو أنه أوقف جزءا كبيرا من الفساد الذي كان يأكل من ميزانية دعم المحروقات عن طريق إلغاء الدعم، أي أن بنكيران لم يخرج الفساد من بيت الدعم إلا عندما هدم البيت على من فيه…