الكَرَاج!!

10 فبراير 2015 - 20:31

لاَ، محكمة النقض ليست مرآباً، هي محكمة القانون، هي المجلس الأعلى، وهي في الأنظمة القضائية المقارنة محكمة التمييز، ولن يقبل من الإعلام قوله إن التحاق قاض للعمل بها هو إجراء تأديبي، فليس من التأديب اشتغال القاضي المؤدب بأعلى هرم قضائي ببلادنا. مثل هذا القول يفقد محكمة النقض وظيفتها ورسالتها في مراقبة التطبيق السليم للقانون، وتكريس الاجتهاد القضائي القار !!

لا يجب مقارنة ما يمكن تسميته بالمرآب أو «الكراج» في مرافق أخرى بمحكمة النقض، لأن دور هذه المؤسسة في علاقتها بمحاكم الموضوع خطير وحساس وحيوي. ولذلك يحرص رجال القانون على اقتراح أفضل السبل والمناهج لكي تؤدي عملها على أحسن حال. ما أعرفه جيدا أن رئيسها الأول، ووكيلها العام للملك، ما يفتآن ـ فيما يصدر عنهما من أقوال ـ  يجتهدان في تفعيل دورها، فهما لن يسمحا للإعلام أن يقول عن هذا المرفق مرآبا يحال عليه القضاة بقصد التأديب، فالمسؤولان معا عضوان دائمان بالمجلس الأعلى للقضاء، ويقفان عن علم وكثب على مجريات الشأن القضائي، ويستمعان جيداً إلى الاقتراحات التي يتقدم بها ذوي الإلمام بالموضوع. ومن الاقتراحات أن تكون محكمة النقض هي المشتل الفعلي لاختيار المسؤولين القضائيين على مستوى محاكم الموضوع، ومن الاقتراحات أيضا أن يُحافظ على المسار الطبيعي للقاضي خلال مراحل ترقيته حتى ولو كان ذا موهِبَةٍ وتكوين متميز، ومن الاقتراحات أيضا أن تتاح الفرصة لجميع القضاة كي يساهموا بمجهودهم القضائي في تفعيل دور محكمة القانون. ليس صحيحا أن يقول البعض إن قصب السَّبْقِ يسير في اتجاه واحد، وليس صحيحا أيضا أن يقول البعض الآخر إن ما يُضَمِّنُهُ بعض المسؤولين القضائيين من نظريات مجانية يقلل من حُظُوظِ الراغبين في العمل بمحكمة القانون، فالرئيس الأول بمحكمة النقض راكم خلال عمله كعضو منتخب بالمجلس الأعلى للقضاء، وكعضو دائم به حاليا، تجربة حقيقية في المجال، وخاض معارك ساخنة نعرف تفاصيلها جيدا، ولديه القدرة الفائقة على التمييز بين ما هو صحيح وما هو باطل في نظريات المسؤولين القضائيين في علاقاتهم بالقضاة، وفي كفة مماثلة يضطلع الوكيل العام للملك بمحكمة النقض بمهامه، فهو أيضا راكم تجربة عملية قضائية وإدارية !!

كلاهما لن يقبل أن يقول الإعلام عن محكمة النقض « مرآبا»، وكلاهما لن يقبل أن يستضيف من باب التأديب قضاة لن يُضيفوا شيئا للمحكمة بقدر ما يبعثروا عملها، ولن يقبلا أيضا أن يقال عن افتقاد محكمة النقض للمنهجية في حسن الاختيار، فلا شك أن هناك معايير يعتمدانها في هذا الباب، لأن القول بغير ذلك مدعاة للإحباط والاحتجاج والغبن الاستغلالي. قد يكون إخلاء المجال للمسؤولين معا كي يجعلا من محكمة النقض مرفقا قضائيا متميزا فاعلا مَسْلَكَا حَمِيدًا يصبُّ في باب استقلال السلطة القضائية التي ستتعزز بتعيين رئيس لها، فحسن التدبير في هذا الباب هو مربط الفرس.

 نعم، قد يحتج قاض أعياه السبيل كي يلتحق للعمل بمحكمة النقض عندما يَصْرخ قائلا: هل أنا وحدي الذي لا يصلح للعمل بهذه المحكمة؟ لماذا هذا الحيف؟ وقد يصرخ آخر قائلا ما هي المعايير المعتمدة؟ وَهَلْ هناك فعلا معايير؟ وقد يصرخ آخرون بأقوال أخرى، وقد يسلك البعض منهم طُرُقًا مُلْتَوية لتحقيق المراد، قد تفشل أو تنجح الخطّة بحسب الأحوال! كل هذا يحصل في الواقع، وللخروج من هذا المأزق، يستطيع الرئيس الأول بمحكمة النقض والوكيل العام للملك لَدَيْهَا معا أن يضعا رهن إشارة القضاة الراغبين في العمل بهذه المؤسسة استمارة بالشروط الموضوعية الواجب توفرها، وذلك بإحداث لجنة رفيعة المستوى للوقوف على العينات المفيدة، وأن لا تعتمد فقط نظريات بعض المسؤولين القضائيين الذين لا يخشون ضمائرهم، ويدفعون بِوازِع مَرَضِيّ مُعَاق في اتجاه لا يخدم مصلحة القضاء والقضاة في بلادنا.

 مثل هذا العمل النبيل من شأنه أن يعطي مصداقية للأهداف السامية التي تشغل بال المَسؤولين القضائيين بمحكمة النقض، وهو أن يكون هذا المرفق: مرفقا قضائيا جديّا بامتياز، محكمة قانون، أو محكمة تمييز، وليس مرآبا أو «كراجاً»، كما قرأتُ مُؤخرا في إحدى الجرائد اليومية. فمراقبة التطبيق السَّلِيم للقانون ليست عملا سهلا، فهي تناط ـ في تدرج نظامي مرحلي ـ  بالقاضي وليس العكس. بوسع المسؤولين معًا أن يضعا حدًا لتذمُّر العديد من رجال القانون الذين يشتكون، فأنا أعرف الرجلين معا حقَّ المعرفة، وليس ذلك عليهما بعزيز !!

  

رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين

[email protected]

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي