لِم لمْ نفكر أثناء إعداد مشروع القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية هكذا:
أولا: لا يجوز قياس النظام القضائي المغربي على الأنظمة القضائية المقارنة، فنحن نصدر أحكامنا باسم جلالة الملك وهي بأسماء أخرى.
ثانيا: الملك أمير المؤمنين والحكم الأسمى بين مؤسسات الدولة، يَسْهَرُ على احترام الدستور وصيانة الاختيار الديمقراطي باسمه وحقوق وحريات المواطنين، ويعين أعضاء الحكومة، ويرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويوافق على تعيين القضاة من قبله، وهو الضامِنُ لاستقلال السلطة القضائية، يطلب من المجلس الأعلى للسلطة القضائية ردا مفصَّلا حول كل مسألة تتعلق بالعدالة مع مراعاة مبدأ فصل السلط، ويعين شخصيات مشهود لها بالدفاع عن استقلال القضاء وسيادة القانون، لذلك تنفذ الأحكام القضائية باسم هذه القواعد الدستورية مثل الكلمات المتقاطعة، إذ تضيع الحلول إن لم تجد الكلمة المناسبة، ويعجز أطراف النقاش الدائر حول السلطة القضائية متى تم الالتفاف حول هذه القيمة الكونية التي تكرس استقلال القضاء.
ينتج عن هذه الأسس ما يلي:
1ـ استقلال وزارة العدل، استقت من رحم استقلال القضاء ومن استقلال وزارة العدل عدم انتمائها لأي حزب سياسي، فالملك يسهر على صيانة الاختيار الديمقراطي، وهو ممثل الدولة الأسمى، ومن يمثله أو ينوب عنه في مهامه ينبغي أن يكون مستقلا محايدا، فإذا كان للسيادة مفهوم ما في تعريف أمور الدولة، فإن الوزارة الوحيدة، التي ينطبق عليها هذا المعنى، هي وزارة العدل في ما يسند إلى وزيرها من مهام نيابة عن الملك، ولذلك انتصرت للرأي القائل بالحفاظ على وزارة العدل ووزير العدل في علاقته بالقضاء والقضاة على أساس إرجاع الطابع السيادي لهذه الوزارة، وإسناد مهامها إلى قاض من درجة الرئيس الأول لمحكمة النقض، أو أعلى من ذلك.
2 ـ الملك بنص الدستور هو من يعين أعضاء الحكومة، ويدخل تعيين وزير العدل ضمن هذه الخانة، ووظيفته كقاض تؤهله لممارسة العمل القضائي المخول له العمل الإداري دستوريا والنصوص القانونية الأخرى، وهو لا يخرج عن الأطر القضائية التي تجمع بين العمل الإداري، وحاليا الاختصاصات الموكلة إلى وزير العدل تعزز هذا الرأي.
3ـ الملك كما ينص الدستور هو رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
ويُنيب عنه الرئيس، المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، باعتبار وزارة العدل وزارة سيادة، برئاسة وزير قاض يعينه الملك طبقا للدستور، وبذلك تتحقق النتائج التالية:
يحتفظ رئيس محكمة النقض بدوره على رأس محكمة القانون(…)
فبالرغم من وجاهة رأي القائل بإحداث مجلس الدولة، فإن عدم الأخذ به يقتضي تحرير رئيس محكمة النقض من الحرج وأسباب المخاصمة والتجريح متى لم يكن هو الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، آنذاك عليه البتُّ باستقلال تام في ما يتخذه المجلس الأعلى للسلطة القضائية برئاسة وزير العدل القاضي من قرارات مناسبة في المنازعات التأديبية، وما جاء في مشروع القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والقانون الأساسي للقضاة من ازدواجية الاختصاص بين الحكم لم يُقنع أحدا.
4 ـ إن كلمة الرئيس الأول بمحكمة النقض المنصوص عليها في الدستور لتولي منصب الرئيس المنتدب تعني درجة، وليس بالممارسة، وهو ما سيخلق نوعا من الانسجام ويفتح باب التفرغ، فالرئيس المنتدب للمجلس الأعلى لسلطة القضائية ليس رئيس محكمة ولا وكيلا عاما للملك !!
5 ـ إن رئيس النيابة العامة، حسب هذا التأصيل، هو وزير العدل القاضي المعين من قبل الملك وله الصفة القضائية، فلا خوف هنا على استقلال النيابة العامة.
6ـ يجيب هذا الاختيار رجال السياسة الذين يرون في بقاء النيابة العامة بيد وزير العدل تدخلا للسلطة التنفيذية في مجال القضاء، بأن وزارة العدل لا منتمية ويرأسها قاض يعينه الملك، الذي يضمن استقلال القضاء، ويرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية وينوب عنه وزير العدل، ولا يبقى بعد ذلك مجالا للتغول الذي يخشاه البعض !!
7 ـ يُجيب هذا الاختيار، أيضا، رجال السياسة الذين يريدون إفراغ وزارة العدل من مهامها، وفصم عرى العلاقة بينها وبين المجلس الأعلى للسلطة القضائية والقضاء والقضاة بوجه عام، فوزارة العدل، حسب هذا الاختيار، وزارة السيادة ووزيرها قاض، ومديروها قضاة، ومهامها قضائية وإدارية والقول بخلاف ذلك من شأنه أن يفقد اسم وزارة العدل من المعنى، ويصبح وزير العدل بلا وزارة، ويعجز عن أداء مهامه داخل المغرب وخارجه عن تفعيل دوره !!
أمّا البحث عن قناة التواصل بين وزير العدل والأجهزة القضائية، فإن هذا الاختيار يبقى الوضع على ما هو عليه الآن إلاّ في الشق المتعلق بإسناد مهام الوزارة للقضاة، وهو ما يحقِّق مفهوم الدولة القضائية !!
8ـ يرسم هذا الاختيار السياسة القضائية بمفهومها الجنائي والمدني، فوزير العدل يعد الرأي المطلوب سواء من الملك أو البرلمان في كل مسألة تهم العدالة أو الشأن القضائي، باعتباره نائب رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويتلقى الاقتراحات والمشاريع وكل ما يدور في الفلك القضائي، ومزية هذا الاختيار أنه يضمن الحياد والشفافية والاستقلالية في إنجاز التقارير الخاصة بوضعية القضاء، ومنظومة العدالة، ويصدر التوصيات الملائمة بشأنها !!
رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين