غـويتـيصـولو: لـن أغـير مـراكش بـأي مكان

05 أبريل 2015 - 10:49

استقبل الكاتب الإسباني، خوان غويتيصولو، مجلة «مركوريو»( Mercurio) في منزله المعروف بمدينة مراكش الحمراء. خوان غويتيصولو دخل في عقده الثامن. لكن رغم ذلك، فهو يبدي اليوم روحا شبابية أكثر من أي وقت مضى، عندما يتعلق الأمر بتذكر الأسماء والتواريخ، والأبيات الشعرية، وفقرات من أعمال قرأها منذ سنوات. تحول بفعل أعماله إلى كاتب كلاسيكي من طينة الكبار، كالمكسيكي الراحل كارلوس فونتيس، والبيروفي ماريو فارغاس يوسا، والكولومبي الراحل غابرييل غارسيا ماركيز. كاتب يعشق الكتابة باليد عوض الآلة الراقنة، ويقول عنها: «الكتابة باليد، مثل الاستمناء، مرتبط باليد». يخرج مرتين في اليوم إلى شوارع مراكش، مواظب على الجلوس في مقهاه الخاص بساحة جامع الفناء.

‭{‬  تعيشون في مراكش أكثر من ثلاثة عقود، ما الذي تغير في هذه المدينة؟؟

< سمعت المارة تتحدث فقط بالفرنسية والإسبانية والألمانية. فقط في هذه الزنقة هناك خمس رياضات. (صوت خوان غويتيسولو يعبر عن تعب الرجل. يشرب رشفة من الماء من الكأس الموجودة على الطاولة، وتحيط به الصحف والمجلات والكتب ، ويضيف بعد تأمل طويل): – لكن هنا توجد القبيلة: هناك ثلاثة أطفال ولدوا في هذا البيت، ويشكلون جزءا من القبيلة. الآن، وفي هذه السن، لن أغير مراكش بأي مكان. في مثل عمري هذا، لست قادرا على خوض مغامرات جديدة.

‭{‬ قبل ثلاث أو أربع سنوات، كنت من أولئك الذين عبروا عن أملهم في أن يؤدي الربيع العربي إلى حرية وكرامة الشعوب في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. ولكن، عدا الاستثناء التونسي، كل شيء كان كارثيا جدا، أليس الأمر كذلك؟

< نعم، كارثي (يقول بلهجة يائسة)، بحيث أنه لم أعد أستطيع السفر إلى الدول العربية التي أرغب في العودة إليها من جديد، مثلا اليمن أو مصر. ..

‭{‬ هل صدقوا أولئك الذين قالوا إن العالم العربي ميؤوس منه؟

< لا. أعتقد أنه الفيلسوف كانط هو الذي كان يقول إن عام 1793 أي عام (الإرهاب، والمقصلة، وروبسبير (Robespierre)، لا يلغي عام 1789، أي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. اختفت المقصلة، ولكن بذرة عام 1789استمرت. هكذا، أعتقد أن بذرة عام 2011 (تاريخ انطلاق الربيع) ستستمر.

‭{‬ أشاطرك الرأي. حتى الثورة الفرنسية لم ترسخ بشكل نهائي الديمقراطية في فرنسا. ثم من بعد ذلك جاء نابليون، وعودة حكم آل بوربون والثورات الجديدة: 1830و 1840؟

< كنت في القاهرة بعد شهرين من سقوط مبارك، وتحدثت لشباب حركة 25 يناير. تحدثوا معي بحماس كبير، وقالوا إن الوضع لا يقبل الرجوع إلى الوراء، وقلت لهم: «انظروا، في إسبانيا، منذ الدستور الأول إبان ملوك قادش، حتى عام 1978، كانت هناك جمهوريتان، وثلاث ديكتاتوريات وثلاثة حروب أهلية على الأقل. التاريخ لا يتحرك في خط مستقيم، ولكن، على العكس، هو مسار من التوجه إلى الأمام والخلف، واليمين واليسار. إنها عملية طويلة ومضنية.

‭{‬ لننتقل إلى موضوع آخر، ستتسلمون جائزة سرفانتس للأدب يوم 23 أبريل القادم. هل فرض عليك نوع من البروتوكول لحضور حفل استلام الجائزة الذي سيقام في جامعة الكالا الإسبانية؟

< لقد أبلغتهم أني سأذهب إلى الحفل بالزى الرسمي مع ربطة عنق. نعم ربطة عنق لأنني أملك واحدة منذ أربعين عاما. عادية جدا.

عندما أعلن أنه تم منح جائزة سرفانتس لشخصكم، كان هناك جدل على الشبكات الاجتماعية عن مدى رفضكم أو قبولكم لهذه الجائزة، حيث إن الجميع توقع رفضكم لها، علما أنكم رفضتم العديد من الجوائز. في حين آخرون مثلي قالوا إنك  لا تستطيع رفض الجائزة التي تحمل اسم سرفانتس، كاتبك المفضل.

لم يكونوا يرغبون في منحي هذه الجائزة. ليس لطبيعة أعمالي الأدبية أو موقفي من القانون الكنسي الإسباني، بل لأني طرحت مواضيع محرمة في الثقافة الإسبانية. لم أفكر أبدا  في رفض الجائزة. كان من المفروض أن أتلقاها قبل عشرين عاما، ولكن كانت هناك رغبة في عدم إعطائها لي. حقيقة إن الثقافة الإسبانية والكاتالونية كانتا في القرون الثلاثة الأولى ثقافة المدجن (أي ثقافة الأندلسي المسلم المقيم في مدن النصارى)، وإن النماذج الأدبية المهيمنة آنذاك كانت عربية، علاوة على حقيقة أن الأدب الإسباني الكبير تم إبداعه إلى حد كبير من قبل اليهود المتحولين إلى المسيحية من جراء القمع. بطريقة ما، فكرت أن هذه الجائزة هي بمثابة انتصار وتبرئة متأخرة لكل من أمريكو كاسترو وفرانسيسكو ماركيز فيلانويفا. في هذا الجانب أحببت الجائزة، ولكن من ناحية أخرى، كان شعورا بنوع من خيبة الأمل. الذين قاوموا وعارضوا منحي الجائزة عكسوا بذلك مدى متانة وقوة أعمالي. وبقبولي هذا للجائزة ربما يعتقدون أن هذه القوة قد انخفضت وتلاشت.

‭{‬ وماذا تعتقد أنت؟ هل فقدت هذه القوة؟

< لا أعرف. هذا هو الشك الذي يراودني.

‭{‬ أنت أكثر المؤلفين الإسبان قربا من أعمال سرفانتس. من هو سرفانتس؟ حاول أن تحكي ذاك لصبي في الـ18 من العمر.

< إبداع رواية سرفانتس فقط قابل للمقارنة مع ألف ليلة وليلة. بالنسبة إلي، هما العملان الأم لكل القصص، قصة القصص. ألقيت دروس حول ألف ليلة ولية منذ سنوات في  سانتاندر، وأعجبت حقا بهذه الحداثة التي استوعبها بورخيس بشكل جيد. ربما لم يعرف سرفانتس ألف ليلة وليلة، ولكن دون كيشوت هو أصل الرواية الحديثة بشكل واضح جدا. وخصوصا في الجزء الثاني. في الجزء الثاني من اللعب بين دون كيشوت المزيف، دي أفيلانيدا، ودون كيشوت نفسه يجعل تيمة الشخصية المجنونة بسبب قراءاتها يتحول إلى تيمة  مؤلف مخبول بسبب سلطة الأدب. بالنسبة إلي، هذا هو الدرس العظيم  لسرفانتس.

‭{‬ وحتى اليوم، يجب على أي شخص ينكب على كتابة الرواية أن يعلم أن سرفانتس أبدع في كل شيء تقريبا؟

< هذا هو. كل هذا كان قائما بطريقة أخرى – أي بطريقة فضفاضة أكثر، وليس في بنية روائية- في ألف ليلة وليلة. تسلسل قصة تلو الأخرى، والقصص داخل القصص، وإعادة إبداع القصص…. وخاصة انعدام اليقين، أي أرض الشك. لا أؤمن بالكتب المقدسة، أو التوراة أو الإنجيل أو القرآن الكريم، ولكن أؤمن بألف ليلة وليلة لأن كل شيء هناك مشكوك فيه. الأدب هو أرض الشك، وسرفانتس هو أرض شك. هل تعرف أن في الدارجة المغربية  كلمة (la duda) الإسبانية تعني الشك أو الدودة ؟

‭{‬ يمكنك توضيح الفرق الذي تتحدث عنه، عادة،  بين النص الأدبي والمنتوج التحريري؟

< مؤخرا، شاهدت على شاشة التلفزيون شابا يقول إن عمله الأدبي مر إلى التلفزيون، وتمت ترجمته إلى 15 لغة. حسنا، علامة سيئة للغاية! لم يتم أبدا نقل أي عمل ل «جويس» إلى الشاشة، كما أنها صعبة الترجمة. الشيء الذي يقدمه هذا الشاب هو منتوج تحريري وليس نصا أدبيا. النص الأدبي يتطلب إعادة قراءته. لقد طلبوا مني عبارة بمناسبة الفوز بجائزة سرفانتس، وكانت كتالي: «أنا لا أبحث عن القراء، أبحث عمن يعيد القراءة»، أي الذي لا يكتفي بقراءة واحدة».

‭{‬ لا تبحث عن القراء، بل عن من يعيد القراءة، كيف؟ …

< انظروا، لأعطيك فكرة، قالت لي شابة في مقتبل العمر: «قرأت عملك فضائل طائر العزلة فأعجبني». فقلت لها: «هل أعدتي قراءته؟» شعرت بنوع من الحرج وقالت: «لا». وقلت: «حسنا، أنت قارئة سيئة، أو أنا كاتب سيء.»

ما هي الأسباب التي تفرض أن نعيد قراءة أعمالك أو أي كاتب آخر؟ هل تريد أن تقول إن أعمالك لا تفهم في المرة الأولى، أو لا يمكن تذوقها، أو أن في كل قراءة يكتشف عمل جديد؟

< قرأت دون كيشوت لسرفانتس أربع مرات، في سن ال (25) و(40) و(60) و(80). وفي السنوات الأخيرة، أعدت أعيد قراءة أعمال «ديدرو» و»تولستوي» و»دوستويفسكي»، و»توماس مان»…

‭{‬ ماذا تقدم هذه القراءات التي تعيدها ؟

< خيبة أمل في بعض الأحيان، وأحيانا أكتشف أشياء جديدة. وإعادة قراءة سرفانتس سمحت لي، دوما، باكتشاف أشياء جديدة.

عن مجلة Mercurio،

العدد 170، أبريل 2015

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي