لسبب ما ارتبط لديّ منذ سنين عديدة ضريح «بويا عمر» خاصة، (والأضرحة عامة) بمتاهة «ديدلوس»، حيث احتجز الإغريق القدامى (المينور)، ذلك الوحش الذي وُلد من جماع بين الملكة «باسيفي» (pasiphae) وأحد الثيران. وهي فعلا متاهة، حيث لا يشكل الموقع الجغرافي لـ»بويا عمر»، الذي يقع على بعد حوالي 100 كلم شمال مراكش، سوى الجزء الصغير الظاهر من ذلك «الشيء» الخفي الذي ينغرس عميقا في الكائن المغربي..
وما يحفل به هذا الجزء الصغير الظاهر من مآسي إنسانية يجعلنا نتلمس، مثل الأعمى، بخوف ورهبة كبيرين ما يختبئ بين ثنايا القسم العظيم واللامرئي من بركان الخرافة الذي يحتوينا جميعا.
والدراسة التي كشف عنها وزير الصحة الحسين الوردي هذا الأسبوع حول هذا الضريح – الذي تحول بحركة سحرية في يوم من أيام الله الغابرة إلى مستشفى مرتجل للأمراض العقلية والنفسية حيث «يسجن المرضى- جاءت فقط، لتضع أرقاما وجداول على وضع يؤكد أن ما قاله الروائي الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز مرة من كون: «الواقع أغرب من الخيال».
وتقول وثيقة وزارة الصحة أن حوالي 90 في المائة من الكائنات المغربية، التي يُرمى بها في هذا «المكان» الذي يعيش خارج «الزمن»، يعانون من الاضطرابات الذهنية، وتظهر على الكثير منهم سوء المعاملة، خاصة وأنهم يكونون مقيدين. والقسم الكبير يغرقون أكثر في أمراضهم باستهلاكهم للمخدرات والمواد المسكرة. والأدهى أن حفدة «بويا عمر» يكسبون كل سنة، حسب هذه الدراسة، حوالي 800 مليون سنتيم من آلام «نزلاء» هذا «المستشفى الخرافي».
أجل، إن ما يجري في هذا الفضاء، الذي يمكن أن يُؤثث الرواية التي لم يكتبها فرانز كافكا، ليس سوى الواجهة المرئية والبشعة لمتاهة الخرافة الخفية التي تسكن ما يسميه عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ «اللاوعي الجمعي» للكائنات المغربية.
فأنا أحس أننا جميعا سجناء، بشكل من الأشكال، بهذه المتاهة لأنها تسكننا ونحس بثقل بجدرانها الخفية، وإن كنا لا نراها كما كان سكان الإغريق يرون متاهة ديدالوس ويتجنبونها. وحتى الذين استطاعوا، أو ظنوا أنهم استطاعوا، الحصول على خيط «أريانا» لا يتخلصون تماما منها، إذ تظل بقاياها في ثنايا كياناتهم ماداموا يعتبرون جزءا فقط، من الجماعة وليس أفرادا مستقلين كاملين في فردانيتهم.
والخرافة كانت دوما ذلك الملاذ الذي يلجأ إليه الكائن هربا من ضغوط الجماعة التي تسحقه.. إنها ذلك الدرع الذي يواجه به كل ما يجهل، وكل ما يُخيفه في ظل غياب تعليم يربي هذا الكائن على التفكير العقلاني.
والخرافة كانت، أيضا، ذلك السلاح السري الذي تستخدمه السلطة لفرض هيمنتها وسطوتها، بعد أن تخلطها بما تيسر من تأويل الدين. ويكفي المرء إطلالة ولو بسيطة على تاريخ المغرب ليعثر على العديد من الأمثلة.
في الأسطورة الإغريقية لم يفلت «مسيوس» من المتاهة، بعد أن قتل الوحش مينتور، سوى بفصل الخيط الذي منحته له «أريانا» وساعده على عدم التيه في ممراتها المتشابهة.. فهل من «أريانا» جديدة لتسلح الكائن المغربي بالخيط الكفيل لإخراجه من هذه المتاهة الخفية؟