القاضي الذي أجاب ـ من موقعه كمدير زمنا ـ بقبول اقتراح تحديد سِن مُعينة كحد أقصى لولوج مهنة حرة قائلا: «أنا شخصيا لا رغبة لي في ممارستها»، لا يعرف بتاتا ما معنى كلمة «قاض»، ولم يكن يدرك أنه بنزوته تلك يُضيف إلى نعش القضاء مسمارا إضافيا. فمسلسل إفراغ القاضي من سلطته، ومساواة القاضي بِأيُّهَا الناس أُذيعت أولى حلقاته منذ خمسة عقود على أبعد تقدير!!
ـ في الإجهاز على السلطة التقديرية للقاضي عبر القوانين الخاصة مساس ذريع بالقاضي والقضاء!
ـ في إقرار نظام القضاء الجماعي بدعوى الاشتباه في ما يصدره القاضي من أحكام خروج سافر عن خصوصية قضائنا!
ـ في إِسناد مهام قضائية بالأصالة لغير القضاة امتهان واضح للمؤسسة القضائية!
ـ في تدني أجر القاضي وخلوه من الامتيازات العينية، واستِئثار غيره بها مِمن يمْثلون أمامه صباح مساء، عَدَم اعْتِراف جَلّي بالقيم الكونية التي تجعل الأجر الأول للقاضي ومنها شريعة الإسلام!
ـ في استبعاد القضاة من مراكز اتخاذ القرار في ما له من اتصال مباشر برسالتهم وتفعيل لمهامهم، إيمان راسخ بعدم الرغبة مطلقا في تأسيس الدولة القضائية ذات البنيان الصحيح!!
ـ في تفرغ المهن الحرة للاستِئْصال القسري والقَيْصرِي لِمراقبة شرعية مهامها من طرف القضاء، والمناداة بالاستقلال التام للفرع الثانوي عن الأصل، مدعَاة للتسيب والفوضى وانعدام الرقيب!
ـ في نسف فتيل القوة القضائية للنصوص القانونية المنظمة للمهن الحرة لمحاولة إِضفاء طابع شكلي عليها، إصرار فِعليّ على اختصار دور القاضي استقبالا في مراقبة هلال شهر رمضان الأبرك!!
ـ في هذا الاختلاف غير البريء بين القضاة، وتَسَوُّل المناصب القضائية البراقة بشتى الأساليب، وسياسة الكيل بمكالين في التعاطي مع الموضوع دَسّ خبيث للِسمِّ في الدَّسمِ!!
ـ في أفُول شَمْس القضاة ذوي التجربة والتكوين والأخلاق، لفائدة المتربصين بهم من حَمْلة القرابين والمَحافظ.. امْتِهَانٌ للشخصية القضائية ومسح جارف لما خلَّفه السَّلف الصَّالِح من تراث قضائي مجيد!
ـ في إناطة أمور التشريع بِمَن لا علاقة له بالمجال القانوني بِداية، أو مِمَّن تأمره نفسه بِسُوء ما، نِية مبيتة ذات حمولة عبثية صرفة!!
في ظل هذه الأجواء، يُصبح مقبولا أن تنوب الخَوَابِي عَن الأكْوَابِ في التَّصرِيف، وأن تتفرغ الأداة التشريعية لِتقليم ما بَقِي من أظافر لهيبة القضاة القضاء. والزمن المحك!!
يَتَمَلَّكُني الأسى والأسف عندما أُعَايِنُ الساحة، وأبحث عن زعماء الأمس من رجال القضاء، فأجد البعض منهم يزاول مهنتهُ الحرّة في هدوء وسكينة، والبعض الآخر غادر البلاد ليصدر أحكاما قضائية باسم بلد الإقامة، ومن هم من انشغل بتجارته بعيدا عن المجال، ومنهم من لازال في الميدان، لكنه وعلى خلاف ما كان يؤمن به آثَرَ هَوَاهُ على عَقْلِه بتأثير من المنصب!! فأصبح مثل بَطل بَني خَيْبَان!!
فئة شابة من القضاة، خرجت إلى الساحة تتكلم علنا في ما كان مستورا، ومحظورا. تجتهد قدر ربيع عمرها لإرجاع القطار إلى السِّكة، لم تجد الرَّعِيلِ الأوَّل في الانتظار، مِنْهُم من تبرأ منهَا حفاظا على مصالحه الشخصية، ومنهم مَنْ كان قلبه معهم وسيْفُهُ مع معاوية، ومنهم من لا لَهُ في الطور ولا في الطَّحين!
الذين يعيبون عليهم وعلينا التشبث بالأصول بدعوى أن لدينا عُقْدَة اسمها «القضاء»، وأن الزمن غير الزمن، نقول لهم: «إن القضاء هو حجر الأساس، وإن القانون الأساسي للقضاة هو الذي يحدد معالم التركيبة القضائية لقضاتها ودفاعها وخبرائها ومترجميها وموثقيها وعدولها ومُحكّمِيها، لذلك اقترحنا في مشروع القانون التنظيمي للسلطة القضائية مقتضيات بهذا المعنى، حيث تؤكد المرجعية التاريخية ذلك، كما المرجعية الدينية. ثم إن إغماض الجفون على هذه الحقائق بطريقة التجاهل، هو الذي دفع بأحد رجال القانون إلى القول بأن القضاة كُلما تقدموا في السن، كلما أُصيبت معلوماتهم ومداركهم بِالخَرف، بِعَكْس باقي الممارسين في مهن قضائية أخرى. إن مثل هذا القول الشاذ هو الذي يسمح لمن يريد أن يضع حدا أقصي لسن للقضاة كي يمارسون مهنه حرة بدعوى عدم القدرة الصحية أو عدم الإضافة النوعية أو بداعي الإقصاء فقط، فَهَل للمهن الحرة سن معينة يتقاعدون فيها؟ وهل من يملك سلطة التشريع في هذا المجال، القضاة، أم مساعديهم؟
وهل ثبت أن القضاة غير قادرين حاليا ـ وهم في سن جد متقدمة ـ على إدارة شؤون المؤسسة القضائية، ومنهم من سيظل بها مدى الحياة!
سُرِقتْ من القضاة الضمانات، فمن لا حدود لأجره، ومن يتمتع بالحرية والاستقلال، وله الكلمة المسموعة ليس هو القاضي، هو بكل تأكيد من يساعده!
أقول: «خلا لك الجو فبيضي واصفري». ولو أدرك ذلك القاضي المدير في «زمنه» أنه عندما أذعن لهواه وقال: «إنه لا يرغب شخصيا في مزاولة مهنة حرة معينة»، إنما جَسّد وَضع الثور الأبيض الذي استهل به السبع وليمته، فانتقل إلى زملائه، فقال قولته الشهيرة: «أكلت يوم أُكل الثور الأبيض»!
رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين