صديقي الفرنسي

06 أغسطس 2015 - 22:18

تعرفت عليه بالصدفة قبل أكثر من عشر سنوات، حين أوقفني تائهاً يسأل عن زقاق في مدينة مراكش العتيقة، وبدون تردد استفسرني عن عملي، وحين عرف أنني جامعي، اقترح علي مشاركته فنجان قهوة.. أذكر أن ذلك كان في شتاء 2002. ومنذئذ نمت علاقتنا وتوطدت، وانتقلت من مجرد صدفة عابرة إلى علاقة عائلية، نتواصل بانتظام، ونتبادل الزيارات سواء في مراكش أو باريس كلما سمحت الظروف بذلك. صديقي الفرنسي عاشق للمغرب ولتاريخه وأهله، ومُدمن على التردد على مدينة مراكش، حتى ليُخيل لمن لا يعرفه أنه أحد قاطني هذه المدينة الساحرة.

بعد ثلاثة أشهر سيُكمل صديقي الفرنسي تسعين سنة أطال الله عمره.. غير أنه ليس من عينة الناس الذين عاشوا أو يعيشون الحياة في الطول فحسب، بل عاشها في الطول والعَرض كما يُقال.. رُزق الصحة والمال معا، واهتدت بصيرته إلى نعمة العلم والفكر والثقافة.. دافع عن أطروحته للدكتوراه في العلوم السياسية عام 1954، أي قبل أن أرى النور شخصيا بسنة، ومنذئذ لم يقطع صلته بالعلم والبحث والتنقيب في جواهر المعرفة، بل حين يحل بمراكش، وعلى كبر سنه، تراه متأبطاً وثائقه وملفاته ليعتكف متأملاً، ومدونا ومؤلفاً.. فمنذ أن نشر أطروحته حول «السوسيولوجيا الانتخابية لمنطقة Nièvre» -وهي موطن مولده- في قلب Bourgognes بفرنسا عام 1956، أصدر العديد من المؤلفات، أهلته لأن يصبح حُجةً في مجال الميتافيزيقا وعلم اللاهوت.

تعلمت من هذا الصديق، الذي يكبرني بثلاثين سنة، الكثير من الخبرات والدروس، التي مهما جهدت من أجل إدراكها قد لا أصل إليها. تعلمت منه كيف أن الثروة، خلافا لما هو شائع لدى العامة، ليست منافيةً للعلم أو عدواً له، فصديقي وُلد وفي فمه ملاعق من ذهب كما يُقال. وتعلمت منه فن الإنصات والتعلم باستمرار، وتعلمت منه تقديس الصداقة واحترام الكبار، أي المراجع، أو «الشيوخ» بتعبيرنا المغربي، وتعلمت منه قبول الاختلاف.. لكن قمة ما تعلمت من هذا الصديق أمران اثنان: التفكير بالمستقبل وفي المستقبل، والحرص على تجديد المعرفة واستدامتها.. والحال أن الأمرين متلازمان.

منذ أن تعرفت على هذا الصديق، وكان عمره تجاوز خمسا وسبعين سنة، لم تخل أحاديثنا الطويلة -سواء في مراكش أو حين أزوره في شقته الجميلة في باريس، البعيدة ببضعة أمتار عن جامعة «السربون»، أو حتى في ضيعة أجداده في قلب منطقة «البورغون»- من استحضار بُعد المستقبل في الحديث عن مشاريعه وخططه العلمية والبحثية.. ففي كلامه تلمس المستقبل حاضرا، ومُوجهاً، وكأن الرجل مازال في بدايات رحلة حياته.. هذه الخصلة الجميلة، خصلة التفكير بالمستقبل وفي المستقبل، قل ما تحضر بقوة في تجارب ثقافية وإنسانية مغايرة، وحتى وإن حضرت لدى القلة، تكون فاترةً، وغير ذات تأثير.. فالسواد الأعظم يفكر بالماضي وفي الماضي، أو يتوقف تفكيره تماما، وكأنه ينتظر ساعة الرحيل.. إن من الجائز للمرء أن يتفهم هذا الأمر لدى العامة التي أرهقتها مكابدة متاعب الحياة، لكن من غير المسموح استساغتها عند النخبة، التي كثيرا ما شاخ أو يشيخ أفرادها قبل الأوان.

قمةُ ما تعلمت من هذا الصديق، علاوة على بُعد المستقبل، جنوحُه الجامح إلى تجديد المعرفة واستدامتها. فحين زرته في شقته في باريس قبل أسبوعين وأهداني نسخة من كتابه الجديد، الصادر عن أرقى دور النشر في مدينة ميلانو الإيطالية، رمقت مصنفا ضخما فوق مكتبه، عنوانه «السجل الأسود للثورة الفرنسية».. ولأنني أعرف موقفه النقدي من الثورة الفرنسية ومنظومة قيمها، سألته: «أمازلت مهتما بموضوع الثورة الفرنسية»؟ أجابني على الفور: «كتابي المقبل، إذا كانت في العمر بقية، سيكون عملا نقديا عن هذه الثورة التي شغلت الفرنسيين والعالم من حولهم».. هذا هو صديقي الفرنسي الذي تعلمت منه الكثير.. فتحيةً له وهو على مشارف التسعين، وإن تعمدت عدم ذكر اسمه.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *