أم كلثـــوم!

26 أغسطس 2015 - 00:32

همس الممثل أنور وجدي في أذن سيدة الطرب العربي قائلا: ـ أدعوك إلى سهرة بالكازينو بمناسبة نجاح العرض الأول من الفيلم الذي جمعنا.

ردّت عليه برقة زائدة: ــ أشكرك، لكنني لا أرتاد مثل هذه الأماكن، مضيفة أنا التي يرى الناس فيّ مصر العظيمة لما أقول:

وقَفَ الخلق ينظرون جَمِيعًا

كيف أبني قواعد المَجْدِ وحدي

لا أقبل أن يروني لاهية، مَاجِنَةً، مَخُمُورَة ولعوبة.

وأنَا التي أشد أزر المواطن المصري بالبأس والثبات والكفاح، عندما أصدح:

وَمَا نَيْلُ المطَالِب بِالتمَنِي

وَلَكن تُؤخذ الدُّنْيا غِلابا

كيف يطمئن إليّ وهو يراني مستهترة، خانِعَةً ويائسة. لا يا أنور، من تَمْدَح سَيِّدَ الخلق قَائِلة:

يا أبا الزهراء قد جَاوَزْتُ قدري

                  بِمَدْحِك بيد أن لي انتسابا

لا تقبل على نفسها أن تتوارى بقناع المثل العليا خلف رواسِب الذلة والاستهتار. أنا مِنْ تراب هذا الوطن، وأسعى كي أجعل منه تِبْرَا، ولن ألطخه بسوء الأخلاق ولن أتوانى في الذَّوْدِ عنه بما أملك ولا أملك.

ولم يتأخر الوقت طويلا، إذ طافت أم كلثوم مصر كلها ودول العالم العربي لتدعم المجهود الحربي دفاعا عن عروبتها، ولم تدس في حسابها الشخصي درهما واحدا من عائدات حفلاتها.

أذكر هذين المثالين، فَيَحْضُرنِي قول صاحبي لمَّا شاهد بعض فنانينا يلقي بهم حرس عُلَبِ الليل أشلاء غائبة عن الوعي بالشارع العام، والبعض الآخر ينتزعون مكبر الصوت من الغانيات ويترنحون من ورائه بكلام ماجن، ولا تَكَادُ الأرض تقف تحت أرجلهم من فَرْطِ الإدمان، هم ذاتهم الذين يلهبون الرأي العام بالكلام الرومانسي العذب، والقيم الدينية والمثل، غناء وتمثيلا وتأليفا وَخُطَبًا.

وإذ أذكر هذين المثالين أيضا، أسمع صاحبي يَسُبّ ويَلْعَنُ أولئك الذين يملاؤون جيوبهم وأرصدتهم مقابل خدمة إنسانية اجتماعية تصب في خانة رسالتهم الفنية مَبَالغَ خيالية تصرف في تفاهات لا معنى لها، أو ليست ذات أولوية في الرياضة واللهو بشكل عام.

في لمح البصر تصبح مثل هذه النماذج مليارديرات، خصوص وأنه لا مجال للمقارنة مع ما ينهبونه بأي أجر. وما يزيد الطين بِلّة هو عندما نرى الفنان الذي يفترض أن المواطنين يلجؤون إليه ليكون صوتهم المسموع في ما يعترك بداخلهم من هموم، ويحس بهم، هو من يتاجر في مآسيهم وينهب أموالهم هاربا.

بين الكلام الذي أجابت به سيدة الطرب العربي أم كلثوم زميلها أنور وجدي، وما قدمته لبلدها والعالم العربي من دعم، وبين ما هو عليه حال فَنِّنَا وأهله، يوجد بون شاسع.

نحن ننهل من الضرع خفية وعلنا، ونَتَبَجَّحُ برسالة الفن، فتنتظرنا مَزْبَلَةُ التاريخ، وأم كلثوم ضَمِنَتْ لنفسها ولغنائها الخلود أليست هي مَنْ قَالتْ:

ومَا اسْتَعصى عَلى قَوم مَنَالٌ

      إذا الإيمان كَان لَهم رِكاباً 

رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين

[email protected]

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *