المؤشرات المقلقة التي تواترت في الشهرين الأخيرين لاسيما ما يرتبط بسلوك الإدارة الترابية، ثم بلاغ الديوان الملكي الذي ابتدأ بانتقاد تصريحات الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية وانتهى بشكل ضمني بالتعرض للقوى التي تتبنى عنوان مواجهة التحكم، هذه المؤشرات تكشف عن دخول السياسة في المغرب لمربع جد ملتبس بسبب الحرج الذي وضعت فيه تعهدات الدولة بضمان الحياد والوقوف على مسافة واحدة من كل الأحزاب.
فقط، المؤشر الوحيد المتبقي لإنقاذ سمعة الاستحقاق الانتخابي هو ما تبقى من مسار العملية الانتخابية، بدءا بالشكل الذي سيكون عليه سلوك الإدارة الترابية في تفاعلها مع الترشيحات وموقفها من الحملة الانتخابية وسلوكها أثناء عملية التصويت وكيفية تدبيرها لإعلان النتائج.
بداية مسار العملية الانتخابية أعطت صورة مشابهة للممارسات السلطوية التي كانت تعرفها الانتخابات قبل العهد الجديد، إذ تدخلت الإدارة بشكل واضح ومكشوف في تكييف ترشيحات حزب معين منعا وضغطا، كما تدخلت أيضا في استهداف مرشحين للحزب نفسه لضرب صورته أياما قليلة قبل الانتخابات.
بلاغ الديوان الملكي يكشف بشكل واضح عن وجود درجة من التذمر من استعمال بعض الأحزاب لمفهوم التحكم، علما أن هذه الأحزاب تخرج الملكية تماما من منظومة التحكم وتعتبرها ملكية بهوية إصلاحية، بل إنها تشترط في خطها السياسي التقاء الإرادة الملكية بالإرادة الشعبية لنجاح الإصلاح.
المفارقة أن الأحزاب المعنية بالإصلاح ومواصلته والتي تولت مهمة تدبير الشأن الحكومي في هذه الولاية هي التي تتبنى مفهوم التحكم، وليس أحزاب المعارضة، مما يفيد أن التحكم هو حقيقة سياسية تم ملاحظتها ومعاينتها من داخل التجربة الحكومية، ومن خلال عمل المؤسسات وعلاقة بعضها ببعض.
ما المزعج في أن يتبنى حزب سياسي مواجهة التحكم حتى يتعرض لهذا الحجم المبالغ فيه من الاستهداف؟ وهل إلى هذا الحد نجح المركب المصلحي في أن يزج بالملكية في مواجهة قوى إصلاحية تعتبر الملكية مشروعا إصلاحيا ممتدا في الزمن وشرطا حاسما في عملية الإصلاح؟
مؤكد أن قوة الإصلاح ارتكبت بعض الأخطاء، ومؤكد أيضا أن المركب المصلحي الشبكي الذي يخترق السلطة والإدارة والأعمال والإعلام عرف كيف يستغل هذه الأخطاء وينقلها من مستواها الطبيعي إلى مستوى آخر يستدعي قلق الملكية على وجودها، لكن، خبرة الحكام، وما يمتلكون من أدوات ووسائل للتبين، تجعلهم يدركون الحجم الحقيقي للأخطاء المرتكبة، بل ويدركون أكثر من غيرهم وظيفة تعميق التوتر بين المؤسسات التي يقوم بها المركب المصلحي الراعي الحقيقي للتحكم بكل مستوياته.
لنفترض أن المسار يتجه في منحى إنهاء تجربة الإصلاح، و »إعادة الأمور إلى نصابها » بالنحو الذي يتأوله التحكم. لنفترض أن الأمور رسمت بهذا الشكل، أي بالشكل الذي لم يتم فيه افتراض المآل، هل تم استحضار معادلة الربح والخسارة، أو على وجه الدقة هل تم حساب الكلفة الحقيقية لهذا الاختيار؟
لقد كان الملك في غاية الوضوح والذكاء حين تحدث في خطاب رسمي عن مؤهلات المغرب، وأنه لا يملك غازا ولا بترولا، وإنما يملك موارده البشرية ونموذجه الديمقراطي والتنموي.
التحدي المطروح اليوم، بعد أن آتت هذه المؤهلات غير المادية ثمراتها، هو أن المؤشرات المقلقة والمزعجة التي ظهرت في بداية مسار العملية الانتخابية تبين بأن المغرب يتجه نحو اغتيال مؤهلاته، ونحو التشويش على نموذجه التنموي الآخذ في الاكتمال، ونحو تراجع ديمقراطي خطير ستكون كلفته جد عالية لاسيما على ملف الوحدة الترابية الذي يأمل المغرب أن تكون سنة 2016 سنة حسمه.
إن التدخل في العملية الانتخابية لإفسادها قبليا أو بعديا لا يضر حزبا بعينه، وإنما يضر بالمصالح الاستراتيجية للمغرب.
نعم، يمكن لحزب معتدل أو أكثر أن يتعرض لظلم السلطة ويتحمل ذلك تقديرا منه للمصالح العليا للوطن، لكن بالنسبة إلى المصالح الاستراتيجية، أبدا لن ينتظر أعداء الوحدة الترابية حماقات التحكم، بل بالعكس، فهذا ما يرجونه من انهيار المسار الديمقراطي وتعرض الجبهة الوطنية للتفكك حتى يتجهوا بسرعة نحو تحقيق مقاصدهم الخبيثة.
الوقت لم يفت لتدارك الأمر. فقط، اتركوا صناديق الاقتراع تقول كلمتها، وخذوا المسافة التي تحدث عنها الملك في خطابه، واتركوا الناس يقررون هل يريدون مواصلة الإصلاح؟ أم يريدون عودة التحكم؟