تحكي البلجيكية لورا باسوني، في هذه الشهادة، حقائق صادمة عن تنظيم لا يكتفي بقطع الرؤوس أمام أعين الصغار، وإنما يمسك الرؤوس المقطوعة ويدحرجها نحوهم ليلعبوا بها الكرة، مغتصبا براءتهم مرتين. لورا خاطرت بحياتها وحياة ابنها في رحلة الالتحاق بالتنظيم، ثم خاطرت بها مرة ثانية عندما قررت الهروب من حياة كأنها الموت، انفجارات ودماء ومشاريع انتحارية…
حين التقيتها في إحدى حانات مدينة «شارل لوروا» ببلجيكا، كانت تضع قليلا من الماكياج على جفنيها وعينيها، وتعلق قرطين دائريين بأذنيها، وتضع الطلاء على أظافر قدميها. قبل ثمانية عشر شهرا من هذا اللقاء، كانت لورا باسوني ترتدي النقاب، لباس نساء «داعش». ومن الصعب اليوم تقبل فكرة أن هذه الشابة البلجيكية ذات الواحد والثلاثين عاما كانت في أحد الأيام واحدة من نساء التنظيم.
السفر المشؤوم
قررت باسوني في يونيو 2014 الالتحاق بتنظيم داعش رفقة ابنها نسيم ذي الأربع سنوات، وزوجها أسامة. كانت تتوق إلى وضع قدميها في الأرض المقدسة، فإذا بها تضعهما في قاع جهنم. كانت تحلم بحياة جديدة تقتفي فيها طريق المؤمنين قبل أن تجد الطريق معبدا بالدماء والفظاعات. كانت تظن الشام بلادا تسيل فيها أنهار من العسل المصفى واللبن السائغ، فإذا بها تجدها بلادا تسيل فيها أنهار الدماء، وتفوح منها روائح الموت والخوف والقذارة، وينتشر فيها الجوع والعطش. ما رأته من وقائع مخيفة جعلها تسلك طريق الفرار وتنجح فيه في مارس 2015، بعد محاولة أولى فاشلة.
وقد قررت باسوني سرد تجربتها الخاصة في كتاب استأثر باهتمام الإعلام بعنوان «في قلب داعش مع طفلي»، كتبته بصفة مشتركة مع الصحافية بقناة «إر تي بي إف» كاثرين لوروزينيول. ويسرد الكتاب يوميات باسوني خلال وجودها بمعاقل التنظيم بدقة كبيرة، «كما هو حال النساء اليزيديات، النساء بتنظيم داعش مجرد إماء. لا نصلح بالنسبة إليهم إلا لإنجاب الأطفال، لا أقل ولا أكثر. والذكور من الأطفال، أما الإناث فلا قيمة لهن لدى التنظيم»، تقول لورا.
وتُعد هذه الشابة البلجيكية الشجاعة التي تتلقى طلبات لإجراء حوارات من صحف دولية مثل «واشنطن بوست» و«لاريبوبليكا» الإيطالية، أول امرأة فرانكفونية تجرؤ على تقديم شهادتها عن رحلتها إلى أراضي التنظيم، لأنها، حسب ما تقوله، «لو كنت أعلم ما يحصل حقيقة هناك، ولو كانت لدي معلومات أكثر، ما كنت لأسافر إلى هناك أبدا».
تطرف بعد خيانة عاطفية
سنة 2009، سقطت هذه الفتاة التي أتى أجدادها من إيطاليا للعمل في مناجم شارل لوروا، والتي اعتنقت الإسلام في سن الـ17، في حب محمد. ورغم ولادة ابنهما نسيم، قرر محمد الانفصال عنها، من أجل امرأة أخرى تعرف عليها سنة 2014. هذه الخيانة العاطفية ستدخل لورا في دوامة من اليأس والكآبة. على فضاء فايسبوك، ستلتقي لورا إدريس، شخص أصولي التفكير يقطن ببروكسيل، والذي سيحدثها عن تنظيم داعش بسوريا والعراق، وسيقول لها إن بإمكانها بناء حياة جديدة هناك، والزواج من رجل تقي ومخلص. لورا صدقت وعوده.
«لم أكن أطالع الجرائد أبدا، مصدر معلوماتي الوحيد كان يتمثل في الفيديويات الدعائية التي ينتجها التنظيم»، تعترف لورا الآن. هكذا بدأت لورا تتطرف يوما بعد آخر. بدأت تنظر إلى أبويها على أنهما كافران، والعالم الذي يحيط بها على أنه يكن للعداء للمسلمين. ثم فتحت حسابا ثانيا في فايسبوك باسم «نورا معتنقة الإسلام»، ووضعت على بروفايل الحساب صورة لامرأة منقبة تحمل رشاش كلاشينكوف. ساعتها، سيتواصل معها أسامة، وهو تونسي يعيش ببلجيكا وأب لأسرة صغيرة. أسامة كان بدوره قد مر بتجربة عاطفية محبِطة. كان قد انفصل عن زوجته. وبعد اللقاء الثالث، تزوج رفيقا الخيبة العاطفية، وبشكل سري، بدآ يعدان لسفرهما إلى سوريا.
من أجل الالتحاق بصفوف المقاتلين، حجز أسامة سفرا سياحيا على متن سفينة تمر بدول مختلفة من الضفة المتوسطية. في 19 يونيو 2014، خلال توقف السفينة بإزمير، انسلت لورا وزوجها وابنها من بين بقية الركاب دون لفت الانتباه. أخذ الثلاثة سيارة أجرة باتجاه مدينة عنتاب التركية على الحدود مع سوريا، ثم اخترقوا الحدود السورية بمساعدة مهربين، قبل أن يجدوا في انتظارهم أربعة أعضاء من التنظيم. عند رؤية الجهاديين الأربعة بدأت لورا تشعر بالقلق وشيء من الندم، لكنها كانت تعلم أن الوقت قد فات للعودة.
خزان للأرحام
مباشرة بعد وصول الثلاثة إلى دير الزور، تم تفريقهم. أسامة ذهب إلى مخيم تدريب بقي فيه أسابيع عديدة. لورا وابنها نقلا إلى «مضافة»، عبارة عن منزل خاص بالنساء موضوع تحت إمرة امرأة من التنظيم. في المضيفة الماء والأكل يقدمان وفق كميات محددة. وسيتحتم على نورا وابنها النوم فوق أسرة متهرئة في فضاء مزدحم تعمه الفوضى. خلال الليلة الأولى ستشهد لورا وفاة طفل صغير لشابة فرنسية التحقت بالتنظيم بسبب حمى قوية أصابته، وغياب الأدوية والأطباء. «كان من الممكن أن يكون نسيم»، فكرت لورا. الخوف من أن يسقط طفلها طريح الفراش لم يفارقها أبدا.
وفي مضافة أخرى بمدينة الرقة، حيث سيجري نقلها مع صغيرها، لن تكون الأوضاع أفضل. كل شيء محدد وفق نظام صارم، أوقات الخروج والدخول، والنهار مملوء بالأعمال الشاقة والعبادات. بسرعة ستعي لورا الدور الوحيد الذي يمنحه التنظيم للنساء: الأعمال المنزلية، الحرص على راحة المحاربين، والنسل. «الدعاية التي يطلقها التنظيم جعلتني أصدق أنه بإمكاني أن أعمل ممرضة. في الحقيقة كافة النساء هنا سجينات تقريبا. عندما يقتل زوج إحداهن في معركة تحال على المضافة، في انتظار أن يتم تزويجها من شخص جديد. هذه المضافات ليست سوى خزان للأرحام»، كما أن العلاقة بين النساء اللواتي ينتمين إلى جنسيات مختلفة متشنجة، والإضافة إلى حاجز اللغة، هناك مسألة الأفكار الجاهزة.
عقيدة الموت والشهادة
في المضافة، ستكتشف لورا اكتشافا مخيفا: لا أحد من الأطفال الموجودين بين جدرانها يزيد عمره على ثماني سنوات. «امرأة قديمة بالمضافة أخبرتني بأنه بعد هذه السن لا يصبح من حق الأطفال رؤية النساء إلا وهن مرتديات النقاب، ماعدا أمهاتهم أو أخواتهم، حيث يأخذونهم إلى مخيمات التدريب»، وستعرف أيضا أن الأطفال يرسلون إلى ساحات المعارك في سن 12 سنة. في أحد الصباحات، سيهز انفجار مدوِّ جدران المضافة. في تلك اللحظة ستقفز لورا باتجاه طفلها لكي تحميه. «كنت واعية بواقع الحرب، لكني كنت أتخيل أنه يجري في ساحات المعارك وليس حيث يقيم الناس». في محاولة للتغلب على الخوف، بدأت تلعب لعبة صغيرة مع نسيم.
«كنا نعد الانفجارات.. واحد.. اثنان… ثلاثة… أربعة… خمسة. عموما كان يتم إلقاء خمس قنابل، بعد إلقاء الخامسة، نعرف أننا نجونا.. على الأقل إلى اليوم الموالي»، تتذكر لورا.
بمدينة الباب، التي انتقلت إليها في انتظار عودة زوجها، كان القصف يجري بشكل شبه يومي. لا أحد كان يتفهم خوفها من القصف المتواصل. «مرات عديدة، كانت بعض النساء يذكرنني بأننا لم نأت هنا لنعيش، جئنا لنموت. ما يهم هو الحياة الآخرة». عقيدة الموت والشهادة حاضرة بقوة في النقاشات حتى بين الأطفال الأصغر سنا. «بعض النساء لم يكن يترددن في عرض شرائط قطع الرؤوس على أنظار أطفالهن الذين لم يتجاوزوا بعد سن الثالثة»، تقول لورا. خلال حديث مع فرنسيات، سألت إحداهن لورا عمن ستحاول إنقاذه في حال خطر الموت؟ فأجابت: ‘‘طفلي’’، فيما ردت كافة النساء الأخريات: ‘‘زوجي’’، بحجة أنه يمكن إنجاب طفل آخر، لكن لا يمكن تعويض الزوج! «هنا عرفت أن علي الهروب من داعش من أجل إنقاذ ابني نسيم»، تقول لورا.
عندما يكون زوج لورا في المخيمات أو ساحات المعارك يأتي محاربون لأخذ نسيم. كانوا يحاولون تولي مهمة تعليم الطفل. «لم يكن من حقي رفض ذلك. كانوا يأخذونه معهم ليشرحوا له أمور الشهادة والموت، وإطلاعه على بعض الأسلحة». في أحد الأيام، قدم له أحد المقاتلين رشاش كلاشينكوف من البلاستيك ولثاما أسود. في يوم آخر، عاد الصغير إلى البيت يحمل دمية صغيرة وسكينا. طلبوا منه قطع رأس الدمية. كان متوترا جدا ورفض ذلك. «قلت له إني فخورة به لأطمئنه».
وكل جمعة كانت تجري عمليات قطع الرؤوس في الساحات. مهرجان دموي رهيب يستدعى الأطفال لحضوره. بل في بعض الأحيان، كان يسمح للأطفال بلعب كرة القدم بالرؤوس المقطوعة. لتفادي دخول ابنها في جنون مماثل، كانت تبقيه دائما بقربها، كما كانت ترفض إدخاله إلى مدارس التنظيم، التي يمنع فيها تدريس التاريخ والفلسفة والموسيقى والرياضة. «لتعويض ذلك، كنت ألقنه دروسا كل صباح بالاستعانة بمقررات دراسية كانت ترسلها إلي أمي عبر البريد الإلكتروني».
طريق الفرار
بعد عودة زوجها، انتقلت الأسرة للعيش ببيت صغير طافح بالحشرات أصبح شاغرا بعدما فجر المكتري السابق نفسه في عملية انتحارية. داخل التنظيم، تم تكليف زوج لورا بتوزيع الأجور على جنود التنظيم: 50 أورو للراشدين، و25 أورو للأطفال. أفلس الزوجان، وتدهورت صحة لورا بفعل الحمل. خلال زيارة للمستشفى، وصفت ممرضة سورية دواء للورا يفترض أن يخفف ألم التشنجات. وبعد قراءة النشرة المرفقة بالدواء، سيكتشف أسامة أن الدواء يستعمل لتوسيع عنق الرحم. «تساءلت إن كان ذلك مجرد خطأ أم فعل مقصود لقتل جنود داعش في بطون أمهاتهم».
في النهاية، سيقرر الزوجان الفرار من داعش وإن كلف الأمر حياتهما. في المرة الأولى، تم توقيف لورا حين كانت تحاول ركوب الحافلة مع ابنها في اتجاه مدينة منجب السورية، حيث كان يفترض أن يلتقيها مهرب هناك. في المرة الثانية، ستتمكن من الفرار رفقة ابنها وزوجها. ولتجاوز نقاط التفتيش، سيتحجج الزوجان بأن الأمير وهبهم مسكنا جديدا. ملآ السيارة التي كانا على متنها بالأثاث بشكل يوحي بأنهما فعلا يعتزمان تغيير السكن. بعد تجاوز نقاط التفتيش، سيعبر الثلاثة الحدود سيرا على الأقدام عبر طريق صخري وعر وحدهم، بعدما أوقفت السلطات التركية المهربين الذين كان يفترض أن يسهلوا عبورهم.
«عودتي إلى بلجيكا كانت صعبة أيضا. كنت أعيش نفسيا داخل أجواء التنظيم. كنت عدائية جدا، وأعاني من أجل الخروج من هذا الوضع بعدما قامت الصحافة بنشر قصتي، ووصل بها الأمر إلى درجة نشر صور لابني. كنت أحيانا أشعر بالذنب لأني أفعل هنا أمورا كانت محرمة عليّ هناك». عانت لورا كثيرا في الفترة التي تلت عودتها.
اليوم خرجت لورا من تلك الحالة. لا تنظر إلى نفسها كضحية، ولا تشعر بالذنب إلا بسبب تلك الرحلة الجهنمية التي خاطرت فيها بمستقبل ابنها. في 23 مارس 2016، أصدرت محكمة شارل لوروا حكما ضد لورا بثلاث سنوات حبسا موقوفة التنفيذ، فيما حكمت على زوجها بخمس سنوات سجنا نافذا.
أمنية نسيم اليوم هي أن يصير شرطيا ليحارب الأشرار، مثل أولئك الذين نفذوا هجمات بروكسيل. في نهاية الحوار، كشفت لورا أنها اتخذت قرارا حاسما كانت مترددة بشأنه: التسجيل بناد لممارسة الرياضة نكاية في التنظيم الذي يعتبر نوادي الرياضة أماكن للفسق والفجور.
عن : لوبس