لا أعرف متى سقطت في شراك القراءة و »بلية » الكتاب، ولكن أتذكر جيدا المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى معرض الكتاب. حدث ذلك في الدورة الأولى لهذا الحدث في أواسط الثمانينيات.. لا أتذكر التفاصيل التي تاهت عن البال ويصعب استعادتها من بئر الذاكرة، حيث هوت وتراكمت فوقها ما تراكم، بل أتذكر ذلك الإحساس الدافئ والمربك مثل القُبلة الخاطفة الأولى.. ذلك الإحساس الذي غمرني وأنا أخطو في تلك الممرات بين الأروقة التي بدت لي آنذاك مليئة بشكل مفرط بالكتب، بعض مرتب بما تيسر من عناية، وبعضها الآخر متراكم بارتجال. وأنا أواصل جولتي كانت تتسرب بين مسام لذتي حسرة قصر ذات اليد. كنت تلميذا في الثانوي ولم يكن في جيبي سوى بضع عشرات من الدراهم لم تكن تكفي سوى لشراء كتاب أو كتابين.
وأتذكر أول كتاب اقتنيته في تلك الدورة الأولى: الترجمة العربية لكتاب « نظرية الرواية » لجورج لوكاش، بغلافه الأصفر الفاقع. شرعت فور عودتي إلى البيت في قراءته، ولكني لم أستوعب منه شيئا، وحاولت في الأيام التالية إلى أن يئست. كان كتابا ملغزا كاد يصيبني بالإحباط ويبدد لذة ذلك اليوم.
منذ تلك الدورة، كنت دوما حريصا على زيارة أروقة المعرض، الذي كان يعقد كل عامين قبل أن يصير تقليدا سنويا في نهاية التسعينيات، وشراء ما استطعت إليه سبيلا، إلى أن اشتغلت في حرفة الصحافة ورحت أستغلها للدخول مجانا.
ومع توالي الدورات، أصبحت أحس بأن هذه التظاهرة، التي تعتبر مبدئيا حدثا ثقافيا كبيرا، صارت رتيبة فاترة مثل زواج قديم لم يعد طرفاه يرغبان فيه ولا يستطيعان الفكاك منه: الإصدارات نفسها لأن القديم يغلب فيها على الجديد.. الأروقة نفسها والوجوه ذاتها التي تشرف عليها.. الوجوه نفسها التي تفرح بلقائها ولا تلتقيها سوى في هذا المكان.. الوجوه نفسها التي تتجنبها وتغير ممرك عند رؤيتها.. الغبار ذاته العالق بسقف مكان العرض. وأخشى أن يتحول هذا المعرض إلى مجرد واجب ثقيل على من يتولون تدبير أموره، يكتفون فيه بأضعاف الإيمان، ولا ينخرطون في تلك العملية المؤلمة ولكن الضرورية: البحث عن أفكار جديدة لتطوير هذه التظاهرة الثقافية والإبقاء على حيويتها.
أنا شخص « مدمن » قراءة ولا أستطيع التحرر من الكتاب، تماما مثلما لا يقدر متعاطي الكوك أو الهيرويين الإقلاع عن أخذ جرعته، وسأواصل التردد على كل الدورات المقبلة لمعرض الكتاب بالبيضاء ولأي معرض كتاب أستطيع إليه سبيلا، ولكن لا أفلح في مقاومة هذه الحسرة التي تغمرني وأنا أحس أن هذه التظاهرة الثقافية لم تنجح في التغلغل في أوصال الدار البيضاء رغم مرور كل هذه السنين، إذ يكفي الابتعاد عن مكان وجود الأروقة ببضعة أمتار وعبور الطريق إلى الأزقة الجانبية حتى ينتفي أي أثر له. وهذا هو أكبر فشل لهذا المعرض في تقديري: لم يفلح في غواية البيضاوي (سواء أكان قارئا شغوفا أو عازفا عن طقوس القراءة)، وجعله يتبناه ويؤثث أحاديثه بالمقهى والبار وراس الدرب، مثلما يتبنى نشاطات أخرى (كرة القدم، عروض موسيقية…)