في رثاء رجل دولة استثنائي

20 فبراير 2017 - 17:00

كان العز بن عبد السلام، أحد شيوخ الصوفية الكبار، يقول لمخالفيه في الرأي «بيننا وبينكم الجنائز»، تعبيرا منه عن الاحتكام إلى النهايات وليس البدايات، ففي الجنائز لا ينافق ولا يجامل ولا يخاف الناس الراحل، وكذلك كانت جنازة مولاي امحمد بوستة جنازة الكبار من أهل الله والوطن.. جنازة الزعماء الذين يبكيهم البعيد قبل القريب، ويحزن من أجل فراقهم الأهل والأحبة والأصدقاء والمواطنون، الذين أنفق الراحل أكثر من 76 سنة من عمره (92 سنة) في النضال ضد الاستعمار، وفي النضال من أجل بناء الاستقلال في الحكومة والبرلمان والحزب والإعلام والنقابة… لم يكل ولم يمل منذ خرج في تظاهرة الجياع في مراكش وعمره 15 سنة، إلى أن توفي يوم الجمعة الماضي وهو يشاور قادة الاستقلال بشأن سبل الخروج من الأزمة التي تعصف بالحزب الكبير.

هذا هو امحمد بوستة، الذي رحل عن دنيانا الأسبوع الماضي بعد مسار حافل لا تتسع له عشرات الكتب، فما بالك بكلمات قليلة في هذا الركن الصغير.

مات حكيم الحزب المراكشي، صاحب النكتة والكياسة والعراقة الآتية من دروب المدينة الحمراء إلى ساحة النضال، مرورا بمقاعد جامعة السربون لدراسة القانون ثم الفلسفة ثم المحاماة، ثم الدبلوماسية التي خبر حجر أساسها في ديوان أبي وزارة الخارجية، الحاج محمد بلافريج، ثم كاتبا للدولة، ثم وزيرا للخارجية، ثم وزير دولة، ثم «مشروع وزير أول»، وهو منصب عرضه عليه الراحل الملك الحسن الثاني في بداية التسعينات، لكنه رفض أن يقبله بدون قيد أو شرط، وقال للملك: «لا أستطيع أن أحكم مع إدريس البصري»، فقال له الحسن الثاني: «ولماذا؟»، فرد المراكشي بنباهته المعروفة: «حتى لا نقضي الوقت في الصراع، ونفرط في خدمة البلد»، فرد الحسن الثاني بالقول: «أليس الأفضل أن تتصارعوا مع البصري على أن تتصارعوا معي أنا شخصيا؟»، فرد ابن الحمراء: «حشا نعماس»، لكنه لم يتراجع عن شرطه، ولم يتزحزح من مكانه، وهو يعرف مكانة البصري لدى الحسن الثاني، فسحب الأخير دعوته إلى التناوب، وما ندم الزعيم الاستقلالي، ولا بقي في نفسه شيء من منصب لم يكن ليزيد بوستة مجدا على أمجاده.

عندما كان في الحكومة، كان يتحلى الصبر والبحث عن منافذ الإصلاح، وعندما كان يخرج إلى المعارضة، كان يتسلح بالصلابة والشجاعة والحزم، ولا يخاف على شيء وراءه، ولا يطمع في شيء أمامه… هذا هو ابن علال الفاسي الذي لم يقف خلف الملكية خوفا أو طمعا، بل قناعة وإصرارا على البناء والإصلاح والتقدم في بلاد تقاوم منذ قرون ثقافة التغيير.

لما نادى الملك محمد السادس فقيدنا لقيادة لجنة تعديل مدونة الأحوال الشخصية، التي قسمت المجتمع في بداية العهد الجديد، لبى الراحل النداء، وقاد مشاورات صعبة للوصول إلى توافق أصعب حول تنظيم الأسرة، ووضع المرأة في مغرب متحول، ونجح حيث أخفق آخرون، لأنه ابن هذه الأرض، رجله تلامس الجذور، ورأسه ينظر إلى العصر وثقافته وتحولاته.

هذا هو امحمد بوستة، رجل دولة كبير، قضى جل حياته خارج الحكم، سياسي محافظ يعرف كيف يقول لا. وطني كبير بثقافة واسعة وانفتاح قل نظيره، تعلم من بلافريج أسلوب الإقناع وكياسة الدبلوماسي، وتعلم من الزعيم علال الفاسي الدفاع عن حوزة الوطن والاعتزاز بالانتماء العربي والإسلامي، وتعلم من عبد الرحيم بوعبيد أصول المرافعة في الوفاء للديمقراطية.

ساعات بعد إعلان وفاته، أخرج الفيسبوكيون من الأرشيف شريطا للراحل امحمد بوستة يهاجم فيه وزير الداخلية إدريس البصري على استدعائه صحافي ‘‘لوبنيون’’، خالد الجامعي، وتقريعه في مكتبه على عبارة كتبها، تعتبر وزارة الداخلية حزبا سريا أفسد إشرافه الدائم على الانتخابات اللعبة الديمقراطية كلها، واختار الزعيم بوستة من على منصة البرلمان ليس فقط الدفاع عن الصحافي وتبني ما كتبه في مقاله، بل والهجوم على وزير الداخلية الذي كانت أغلبية النخبة السياسية تخافه أو تتملقه… من اليوم من زعماء المعارضة يستطيع أن يقول لوزير الداخلية: «ماقدو فيل زادوه فيلا»؟ في إشارة إلى تقلد البصري وزارتي الداخلية والإعلام وأشياء أخرى.

لو قدر للراحل أن يرى جنازته، وأن يسمع تأبين مولاي امحمد الخليفة: «كيف أرثيك»، وأن يتطلع إلى الوجوه التي حجت من كل فج عميق لوداعه، بينهم الأمير والغفير، الحرفيون وكبار موظفي الدولة، الفقراء والأغنياء، الكبار والصغار، الرجال والنساء، الاستقلاليون وغير الاستقلاليين، اليساريون والإسلاميون والسلفيون واليمينيون… كلهم تحلقوا حول قبر آخر جيل من الزعماء الوطنيين الذين تَرَكُوا بصماتهم فوق هذه الأرض، وتركوا سيرتهم بذور لقاح علها تزهر في زمن أفضل من هذا، وفي مغرب أجمل من الذي ودعه الزعيم بوستة، وهو يحمل في قلبه غصة على ما آلت إليه السياسة، وما انتهى إليه حزب «مغربنا وطننا روحي فداه».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

عدنان السوسي بلجيكا منذ 8 سنوات

أحييك على هذه الإفتتاحية.فعلا جامعة مانعة

تعاليق شاردة ... منذ 8 سنوات

مثل هذه الافتتاحيات رغم اهميتها لا تستهوي الكتائب المعروفة التي تكشر عن انيابها الجارحة كلما كان الموضوع يستهدف شخصا من الطرف الآخر او تشمر سواعدها للمدح والتهليل كلما تعلق الأمر بالأقرباء السياسيين . لهذا نلاحظ بعض التعاليق اليتيمة التي يقدمها بعض المتتبيعين ، حين تصمت الكتائب التي كانت تعاليقها تتساقط مثل مطر عاصف .

يوسف منذ 8 سنوات

ليس العز من كبار الصوفية كما جاء في مقالكم و ليس هو قائل المقولة.قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : " سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع ، بيننا وبينكم يوم الجنائز ". هذا هو العز كما جاء في ويكيبيديا : بو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن السُّلَمي الشافعي (577هـ/1181م - 660هـ/1262م) الملقب بسلطان العلماء وبائع الملوك وشيخ الإسلام، هو عالم وقاضٍ مسلم، برع في الفقه والأصول والتفسير واللغة، وبلغ رتبة الاجتهاد،[1] قال الحافظ الذهبي: «بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلابة في الدين، وقَصَدَه الطلبة من الآفاق، وتخرّج به أئمة».[2] وقال ابن العماد الحنبلي: «عز الدين شيخ الإسلام... الإمام العلامة، وحيد عصره، سلطان العلماء... برع في الفقه والأصول والعربية، وفاق الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث والفقه واختلاف الناس ومآخذهم، وبلغ رتبة الاجتهاد، ورحل إليه الطلبة من سائر البلاد، وصنف التصانيف المفيدة».[3] وُلد العز بن عبد السلام بدمشق سنة 577هـ (1181م) ونشأ بها، ودرس علوم الشريعة والعربية، وتولى الخطابة بالجامع الأموي والتدريسَ في زاوية الغزالي فيه، واشتُهر بعلمه حتى قصده الطلبة من البلاد، كما اشتُهر بمناصحة الحكام ومعارضتهم إذا ارتكبوا ما يخالف الشريعة الإسلامية برأيه، وقد قاده ذلك إلى الحبس، ثم إلى الهجرة إلى مصر، فعُيّن قاضياً للقضاة فيها، وقام بالتدريس والإفتاء، وعُيّن للخطابة بجامع عمرو بن العاص، وحرّض الناس على ملاقاة التتار وقتال الصليبيين، وشارك في الجهاد بنفسه، وعمّر حتى مات بالقاهرة سنة 660هـ (1262م) ودُفن بها.[1]

aziz منذ 8 سنوات

واختار الزعيم بوستة من على منصة البرلمان ليس فقط الدفاع عن الصحافي وتبني ما كتبه في مقاله، بل والهجوم على وزير الداخلية الذي كانت أغلبية النخبة السياسية تخافه أو تتملقه… من اليوم من زعماء المعارضة يستطيع أن يقول لوزير الداخلية: «ماقدو فيل زادوه فيلا»؟ في إشارة إلى تقلد البصري وزارتي الداخلية والإعلام وأشياء أخرى لا يستطيع - طبعا- من سياسيي اليوم إلا أن يتملق وأن يتدخْشَشَ تحت إبط التجار وغيرهم من الانتهازيين خونة روح الانتخابات... شكرا على الغيرة لهذا الشهم رحمه الله وأطال الله في عمر امحمد خليفة ورجالات المغرب الكبار

التالي