استعمل مرشح اليمين والوسط « فرانسوا فيون » هذه العبارة للإشارة إلى المطاردة القضائية التي يواجهها، وهو في قلب الاستعداد للاقتراع الرئاسي المزمع تنظيمه في شهري أبريل وماي 2017. وفي آخر تصريح علني أمام وسائل الإعلام ليوم الأربعاء 01 مارس 2017، لم يتردد في تكرار عبارات مشابهة لـ »انقلاب القضاة »، حين اتهم القضاء بالسعي إلى اغتياله واغتيال الديمقراطية الفرنسية من خلاله، مؤكدا عزمه الاستمرار مرشحاً لليمين واليمين الوسط مهما كانت الظروف، في تجاوز صريح لنية القضاء التحقيق معه منتصف هذا الشهر (15 مارس 2017)، بخصوص الاتهامات الموجهة إليه، على خلفية تقاضي زوجته ونجليه تعويضات عن أعمال يُشكك في إنجازها.
يمكن في الواقع قراءة ما حصل لـ »فرانسوا فيون » في علاقته بالقضاء من زوايا عدة، أبرزها أن إثارة موضوع الاتهامات والشروع الفوري في الإجراءات القضائية في خضم الاستعداد للانتخابات الرئاسية، قد يُفسر على أنه سعي مدروس ومتعمد للتأثير السلبي على حظوظ مرشح اليمين، والحيلولة بينه وبين الظفر بنتائج الاقتراع الرئاسي، وهذا فعلا ما أشارت إليه تصريحات « فيون » في أكثر من مناسبة، بالتلميح أحيانا، وبصريح العبارة حين وسم عزم القضاء التحقيق معه منتصف هذا الشهر بالاغتيال، مكررا إصراره عدم التراجع ثلاث مرات. لكن يمكن، بالمقابل، النظر إلى موقف القضاء الفرنسي في هذه النازلة بالذات على أنه تعبير عن استقلاليته، وتجرده، وقدرته على فرض احترام سلطته عندما يتعلق الأمر باختلالات تنال تدبير الشأن العام، وخاصة المال العام وما يدخل في حكمه. ولعل هذه القراءة هي التي تفسر أسباب الاهتزاز الذي أصاب اليمين ووسط اليمين نفسه، حين أعلن بعض قادته ومناصريه انسحابهم من الاستعداد للانتخاب الرئاسي، وعدم الاستمرار في دعم مرشحهم « فرانسوا فيون ».
لاشك أن دخول القضاء على خط سير الانتخابات الرئاسية الفرنسية سيكون له آثار على العملية السياسية برمتها، بغض النظر عن استمرار المتهم الرئيس، أي « فرانسوا فيون »، أو اضطراره إلى الانسحاب في المقبل من الأيام. غير أن المهم واللافت للانتباه في ما يحصل بفرنسا، تلك المصفوفة من الظواهر التي اخترقت المجال السياسي، وضغطت على اتجاهات النقاش لدى فاعليه السياسيين.
فمن جهة، لم يعد الفرنسيون يترددون في الاعتراف بأن حياتهم السياسية فقدت زعاماتها الكبرى بالتدريج، أي قاماتها السياسية، التي ظلت تمُدُّ مشهدها السياسي بأسماء وازنة وذات قيمة معنوية كبيرة، سواء في عائلة اليمين ووسطه، أو في بيت اليسار بكل ألوانه وأطيافه. ومن يتابع ما يجري بفرنسا، يلاحظ أن آخر هذه الزعامات كان الرئيس السابق « جاك شيراك »، الذي غادر الحياة السياسية منذ أن تولى وزيره في الداخلية « نيكولا ساركوزي » السلطة في انتخابات عام 2007، كما كان « فرانسوا ميتران » آخر عمالقة الاشتراكيين واليساريين قبل أن ينهي ولايته الثانية سنة 1995؟ لذلك، تعيش فرنسا، وهذا مظهر آخر من الأزمة المصاحبة للانتخابات الرئاسية الحالية، تراجع الخطابات السياسية، وانحراف التنافس من تنافس حول البرامج والاستراتيجيات والرؤى المتناظرة إلى تصارع الأشخاص، وتنازع الأفراد، وقد ترتب عن هذا المنحى حصول حيرة وارتباك للكثير من الفرنسيين، وانقسامهم حول من سيحظى بقبولهم، وربما قد يُذكي هذا الاتجاه في السياسة الفرنسية إلى توسيع دائرة العزوف السياسي، وانخفاض معدلات المشاركة في الاقتراع المقبل. والواقع أن استطلاعات الرأي لم تتردد في التنبيه إلى هذا المنحى في سلوك الجسم الانتخابي الفرنسي.
فلو أمعنا النظر في ما يعتمل الآن داخل المجتمع الفرنسي، ومواطنو هذا البلد لا تفصلهم عن الاقتراع المقبل أكثر من شهرين، سنلمس فعلا مظاهر هذه الحيرة وهذا الارتباك، في تصريحات الناس ومناقشات المحللين والخبراء، وبيانات بعض الأحزاب. لذلك، ذهب الكثيرون إلى أن فرنسا تجتاز اليوم أزمة شرعية، وأزمة تمثيلية ووساطة، لأن المعبرين عن الشرعية والتمثيلية والوساطة ليسوا واضحين ومقنعين بما يكفي للمواطن الفرنسي، وهم أنفسهم ليسوا قادرين على إقناع الفرنسيين بـأفكارهم وبرامجهم، وبما يتطلعون إلى إنجازه.. لنذكر القارئ الكريم فقط، بأن الفرنسيين قبل أن يصلوا إلى اقتراع شهري أبريل وماي المقبلين، صوتوا أكثر من مرة في الانتخابات التمهيدية، سواء داخل اليمين ووسط اليمين، أو داخل اليسار والخضر.
إن كل ما هو حاصل ويحصل بفرنسا، بما فيه دخول القضاء على الخط، يدفع إلى طرح سؤال كبير، ربما لا توجد إجابات قاطعة عنه، إلى أين تسير فرنسا؟ وكيف ستنتهي انتخاباتها الرئاسية المقبلة؟