نهاية الدولة العميقة

06 مارس 2017 - 15:57

سواء في أمريكا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، اليونان، هولندا، إسبانيا… فإن زلزالا سياسيا جارفا في طريقه إلى إعادة تشكيل الخرائط الانتخابية والحزبية والإيديولوجية، الموروثة عن حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يعني في نهاية التحليل، وبكثير من الاختصار والكثافة، أن الديمقراطية في هذه الجغرافيات، وهي بالضبط موطنها المرجعي، كثقافة وكقيم توجد أمام لحظة تحول كبرى.

 
قليلا ما يتم الانتباه إلى جزء مهم من هذا المخاض، إذ يتعلق الأمر بتحول الموقف من الدولة « العميقة » ونخبها « التقليدية »، إلى عامل مهيكل للاصطفافات السياسية الجديدة، والتي يراد إنضاجها على أنقاض التقاطب المؤسس للتناوب في الديمقراطيات الغربية، بين التصورين المتنافسين حول مرحلة ما بعد « دولة الرعاية الاجتماعية »، والمستمدين من تقليدين فلسفيين عميقين، ينطلق الأول من فكرة الحرية، وينطلق الثاني من فكرة المساواة، لكي يصلا في النهاية إلى مساحة إيديولوجية جد متقاربة بين أطروحة اشتراكية ديمقراطية، وأخرى ليبرالية بنفحة اجتماعية.

 
هذه التحولات، يمكن الوقوف سريعا على بعض إرهاصاتها ومؤشراتها، في الملاحظات التالية:

 
أولا: انبثاق ارهاصات حزبية غربية جديدة، تبحث عن الانتعاش بعيدا عن التقاطب الرئيسي: (يمين /يسار)، اللذان شكلا طرفي معادلة التناوب السياسي، كما طبع الممارسة الحكومية والانتخابية للديمقراطيات الغربية منذ عقود، وذلك من خلال ظهور قوى سياسية بملامح إيديولوجية غامضة، تحمل حزمة من التوجهات البيئية والشعبوية والشبابوية، وتستطيع تدبير استراتيجيات انتخابية مفاجئة عبر الانفتاح على تقاليد الحركات الاجتماعية وقدرتها على الاحتجاج والتعبئة، للتعبير عن مقاومة ورفض كل المؤسسات التقليدية « الفاسدة » و »المحافظة » و »الشائخة ».

 
ثانيا: بروز مُلاحَظ لحساسية يسارية حديثة، تحمل نبرة جديدة وأجوبة جريئة، معتمدة على جيل من القيادات الشابة، وعلى استثمار أمثل لوسائط التواصل الاجتماعي، مع تكريس خطاب نقدي حاد في مواجهة النخب السائدة وسياساتها المستلهمة من مؤسسات العولمة المالية.

 
ثالثا: وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، كزعيم شعبوي غير مسبوق، على خلفية هجوم حاد على  المؤسسة « الحاكمة » (Establishment) ، وعلى نخب « واشنطن »، وهو ما شكل عنصر ارتكاز مركزي لخطابه الانتخابي ومشروعه السياسي.

 
رابعا: الحضور التنافسي القوي لقيادات شعبوية تنتمي إلى اليمين المتطرف، داخل مناخ الحملات الانتخابية الرئاسية القريبة في أكثر من بلد أوروبي، بخطابات هوياتية مغرقة في الوطنية الشوفينية وبمشروع اقتصادي حمائي، وبرؤية معادية لأوروبا السياسية ولنخب « بروكسيل »، وذلك انطلاقا من إعلان مبدئي حاسم للتموقع خارج « السيستيم » وخارج النخب السياسية « المهيمنة »، في مواجهة مرشحي السلطة من اليمين واليسار « التقليديين ».

 
خامسا: التحول المفاجئ لمقولة مناهضة « النسق السياسي »، التي لم تعد حكرا على خطاب يسار اليسار أو اليمين المتطرف، بل أصبح ادعاء مناهضة الدولة العميقة  (Anti-Establishment)حجة انتخابية مطلوبة حتى لدى مرشحي عائلات سياسية تقليدية (فرانسوا فيون مثلا)، الذين اختاروا مواجهة مفتوحة مع بنيات مركزية داخل النظام السياسي (القضاء، الإعلام..)، كل هذا في سياق أصبحت فيه كلمة « النخبة »، كما يلاحظ « جاك أتالي » بمثابة شتيمة.

 
يبدو الخطاب السياسي الناهض في الغرب، بمرجعياته المختلفة سواء الشعبوية اليمينية منها أو ذات الخلفية اليسارية، ناطقا باسم الشعب في مواجهة المؤسسات، وتعبيرا مباشرا عن المجتمع العميق بعيدا عن وساطة النخب المتواطئة، لكنه في النهاية لا يعمل – كما لاحظ عزمي بشارة – سوى على تفجير ثنائية الديمقراطية الليبرالية، ومواجهة قيم الليبرالية والحداثة بآليات الديمقراطية والانتخابات.

 
أجل، توجد الديمقراطية في خطر مؤكد، لا يوازيه في الدرجة إلا ما وقع من نزوح متطرف للعالم في ثلاثينات القرن الماضي من خلال الظاهرتين النازية والفاشية، لكن ما يحدث من واقع  « البريكزيت » إلى احتمال « لوبن »، مرورا بكابوس « ترامب »، يعني كذلك أن الديمقراطية محتاجة إلى الدفاع عن نفسها وتصحيح اختلالاتها، وضمن ذلك توجد بالتأكيد الحاجة إلى إعادة الاعتبار للسياسة في مواجهة الاقتصاد والمال، ولثقافة التناوب وإرادة الشعوب في مواجهة إملاءات السوق والهيمنة التقنوـ إدارية والبنيات الموازية ومركبات المصالح، فضلا عن الحاجة، كذلك، إلى إعادة تعريف النخبة السياسية كقناة للتعبير الحي والمستقل عن طموحات المجتمع، بعيدا عن حصر وظيفتها في مهام المناولة لفائدة دوائر السلطة العميقة أو عوالم الاقتصاد المالي، أو هما معا في تواطئهما القاتل، والذي يعد سببا مباشرا في الكفر بالديمقراطية، والتمهيد بالتبعية لنجاح بدائلها القليلة: الشعبوية أو الإرهاب .

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

محمد السعيد / أكادير منذ 8 سنوات

الديمقراطية المتخمة بالأكاذيب لقد استنفذت الديمقراطية كل ألاعيبها ومخططاتها لتحقيق غايات وأهداف الرأسمالية العمياء التي لم تكن تبصر غير مصالحها. ان الشعوب في مختلف دول العالم ما كانوا يوما "يحكمون أنفسهم بأنفسهم" بل مجرد أدوات تخدم لأجل ربح الرأسمالي فهم تارة معاول وفؤوس للحرث والزرع، وأخرى آلات للتصنيع، وعربات للجر والنقل وفي نهاية المطاف أوعية لطبخ جميع أنواع وأصناف الطبخات التي تكون موجهة لهم . ان الديمقراطية هي حكم اقلية غالبة مسخرة من ذوي النفوذ للدفاع عن مكاسبها والحفاظ على الأوضاع كما هي ،مع الحرص على ترشيح الأفضل لتدبير الشؤون السياسية والإدارية مهما تبدلت المسميات (يمين يسار وسط – نازي فاشي – متطرف راديكالي ...) " أسماء يسمونها هم وآباؤهم "للحفاظ على السلطة واستمرار الهيمنة . وإذا ما أحست بالخطر- الديمقراطية أداة حكم البورجوازية الرأسمالية – لا تتوانى في جر العالم إلى الدمار والخراب إلى أن تستعيد عافيتها (الثورات الليبرالية والقومية في القرن 19- الحربين العالميتين – الحرب الكورية – فيتنام – حروب الشرق الأوسط منذ 1948 مع إسرائيل مرورا بالحرب العراقية الإيرانية " الحرب الحضارية الكبرى " وخصوصا الاستغلال الاستعماري وحروبه التحررية التي عصفت بهويات المستعمرات وشوهت و"خلفت" بنياتهم المادية والثقافية والاجتماعية ...). وويل لمن خالف النهج فمصيره الى زوال . اين المعسكر الشيوعي ؟ لقد طوقوه بكل "هرطقيات وخزعبلات "التي يتفنن خبراؤهم في ابتداعها (حقوق الانسان –البيئة-الاحتباس الحراري- الارهاب – داعش ) كلما لاحت لهم محاولات الخروج عن الصف كيف يمكن التفريط في اسواق تعج بالملاييرمن البشر ؟ أفواه لا تشبع تستهلك بكل نهم كل ما يقدم لهم بدون تردد . الم تكن محلات الماكدونالد والكوكاكولا وسراويل الجينز حرام في بلدان الشيوعية ؟ اما النخب الحالية فذنبها في ان الاديولوجيات التي تسوقها قد عاف عنها الزمان ويبدو للملاحظ أن الشعوب بدأت تفهم اللعبة ؟ هيهات ثم هيهات إن الغول دائما مستيقظ لم يعي ولم يتعب بل غير استراتيجياته وصار يجهز على أدواته القديمة البائدة ويجدد هياكله وآلياته. انه أصبح يسوس العالم بوسائل عالية التكنولوجيا مكنته من ولوج كامل لأقدس الأماكن وأشدها محافظة، بأقل مجهود وأكثر فعالية إنها العولمة ب "وسائط" حطمت كل التقاليد والأعراف وتجهز على الأديان والمعتقدات والقيم إنها نار لاتبقي ولا تذر . نعم بها خرجت الثورات الملونة ( برتقالية - خضراء ..) الموسمية (ربيع- خريف ..) نفسية (ضد الذل – الحقرة ..) لتشهد "نفس المصير": الفشل.لا نفس النهاية ؟لقد كانوا رحيمين بالبوديموس في اسبانيا وأمثالهم في اليونان وانكلترا ، وجلدوا العرب في تونس والعراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن وأجهدوا على أحلام الاوكرانيين وآخر هداياهم "ترامب" للامريكان . فتح يا أخي وافهم عندما ينتدبوك لتسيير شأن محلي او وطني او دولي فهم لا يفعلون إلا إذا كنت على استعاد لل"سخرة"وهم آنذاك يشبعون "سخرية " منك ومن الذين تحسب انك تمثلهم ، إن الرضي لا يهبونه إلا لم صار" عبدا مشرط الاحناك " مثل الدولة انشئت في الاربعينات من القرن الماضي وقادوا لآجلها واستمراريتها عدة حروب وعاثوا في مصير أمة بكاملها ،أجل انها إسرائيل .

التالي