كثيرة هي تلك الأمور التي تنتظرنا من الآن إلى غاية نهاية ولاية الرئيس المقبل للجمهورية، ويجب وضع هذه الانتخابات في هذا السياق والاختيار بناء على ذلك (المقال كُتب أيام قبل انتخابات الدور الثاني لرئاسيات فرنسا التي فاز فيها إيمانويل ماكرون).
في عام 2002، وعلى نفس هذه الأعمدة وفي ظل سياق مشابه، دعوت إلى التصويت لصالح جاك شيراك. بالتالي فالجميع يستوعبون جيدا مدى وضوح الاختيار الذي أقوم به اليوم. خاصة وأنه كان الاختيار ذاته في الدور الأول للانتخابات الرئاسية.
وأود هنا، بكل ما أمكن من موضوعية، أن أفكر وأجعل الآخرين يفكرون في الحالة التي سيكون عليها عالمنا بعد خمس سنوات، والدور الذي سيلعبه بلدنا، وماذا يمكن أن نتوقع من رئيس الدولة.
بغض النظر عن الصخب وتبادل القدح في وسائل الإعلام، ستحدث تحولات عميقة خلال السنوات الخمس المقبلة وسيكون لها أثر عميق علينا.
أولا، ستتغير طبيعة العمل. فالتكنولوجيات الحديثة ستقضي على نصف المهام (وليس مناصب الشغل) التي نعرفها اليوم، وسيكون على كل واحد منا الانخراط دون توقف في سلسلة من “تعلم التعلم”، كما سيتعين تغيير عاداتنا. سيتحتم على كل واحد منا أن يكون، بل سيكون، أكثر استقلالية، أكثر إبداعا، ابتكار منصب شغله دون انتظار من يقترحه عليه.
ثانيا، سيشكو العالم من عدم الاستقرار بشكل غير مسبوق في الخمسين سنة الأخيرة. ستتعاظم الاختلالات المناخية، خاصة في إفريقيا، متسببة في هجرات كبيرة نحو السواحل وصوب أوروبا. وستزداد مخاطر الحروب بالشرق الأوسط، وبحر الصين، وأوروبا الشرقية. وستصبح الأعمال الإرهابية أكثر رعبا، وستوظف تقنيات يتم تجريبها حاليا على الأرض بكل من العراق وسوريا.
ولن تقوى أوروبا على البقاء في حالة الالتباس التي تعيش فيها حاليا: سيتحتم عليها مواجهة مخاطر أزمة رهيبة، مالية واقتصادية وسياسية، في قسمها الجنوبي، حيث ستطلب إيطاليا النجدة، وستحتاج إلى مخصصات مالية هائلة تفوق بكثير تلك التي احتاجتها القارة العجوز لإنقاذ اليونان. كما سيكون على أوروبا التكفل بوسائل أمنها، دون الاعتماد على أمريكا.
في كل بقاع العالم، وخصوص بفرنسا، ستعتبر فوارق المداخيل- أكثر بكثير من اليوم- فاحشة، لا تطاق.. وستكون كل حالة، كل مأساة شخصية، مؤشرا إضافيا على مجتمع غير منصف، وظالم، وعبارة عن تجمع للتشاؤم.
أخيرا، سيعي كل واحد منا، أكثر فأكثر، أنه يملك حق اختيار مصيره ومصير أبنائه، وحتى مصير مكان إقامته.
في هذا العالم الوحشي، غير المضمون، والذي يغلب عليه التنافس، تظل ثقافة التعاطف والإيثار، والانفتاح على الآخرين هي مفتاح النجاح، الفردي والجماعي. لن يجدي نفعا البتة التمترس خلف جدران وهمية: مصائرنا ستكون مترابطة أكثر فأكثر.
وسيكون على فرنسا لعب دور خاص جدا. فبما أنها بلاد الوفرة (pays de cocagne)، يتعين عليها أولا وقبل كل شيء تضميد جراح هذه الحملة الانتخابية الطويلة جدا والعنيفة. ولبلوغ هذه الغاية يجب الانكباب على تحسين مصير ملايين الفرنسيين الأكثر فقرا، وعلى خلق أمل ذي مصداقية لدى العاطلين ولدى كل المهددين بفقدان مناصب شغلهم.
هذه هي الوظيفة الأساسية للرئيس الجديد: جعل الفرنسيين يعتقدون بروية أن غدا سيكون أفضل من اليوم.. أن فرنسا ستكون أخيرا في مستوى عبقريتها، وتاريخها، ووضعها الجغرافي.. أن تكون أسعد بلد في العالم، بلد متسامح، منفتح ويحظى بالاحترام، ويمكن لكل فرنسي أن يحصل فيها على نصيبه العادل.
ترجمة مبارك مرابط عن “ليكسبريس”