الديمقراطية بالقانون

12 مايو 2017 - 16:37

يُعدّ عنوان هذا العمود التسمية الرسمية  لـ”لجنة البندقية”، أي لجنة “الديمقراطية بالقانون” la democratie par le droit ، التي خرجت من عباءة الاتحاد الأوروبي، وأوكل إليها مهمات التحفيز على الدّمقرطة democratisation، والمساعدة على تمثّل قيمها في المجتمعات ما قبل الديمقراطية، ومن يريد الاستزادة في معرف هذه اللجنة يمكنه العودة إلى موقعها على الشبكة العنكبوتية ومحركاتها.

ليس الغرض هنا الحديث عن هذه اللجنة، بل المتوخى بسط بعض الأفكار عن الدور الذي يلعبه القانون في زرع روح الديمقراطية في أنسجة البناءات المجتمعية، وإشراك القراء الكرام في مدى الصلاحية العلمية والمعرفية لهذه التأملات، بُغية الوصول تاليا إلى الحكم عن مقدار نجاح القانون في دعم مسيرة الدمقرطة في بلداننا العربية من عدمه.

ننبه بداية على أن القانون متغير ثابت في عملية الدمقرطة، ومتطلب لازِم لنجاحها. بيد أنه، وهذا تنبيه آخر، ليس في مُكنه لوحده إنجاز الانتقال إلى الديمقراطية، بدون تكاثف عوامل أخرى لا تقل أهمية عن القانون، وفي صدارتها البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية، أي العناصر المتعددة، المتكاملة والمتشابكة، التي تُعطي للقانون معانيه العميقة في إصلاح الدول والمجتمعات وإسعافها في سيرورات الدمقرطة، لأسباب لا تتعلق بقصور القانون وأحكامه عن إحداث التغيير في اتجاه الدمقرطة، وإنما  بسبب إعاقة البيئة بأبعادها المتعددة للقانون لأن ينجز المطلوب منه. فالقيمة المعيارية والإلزامية للقانون تصطدم في مجمل بلداننا بمصادر إعاقة كثيرة من قبيل تأثير الولاءات الأولية، من قبائل وعشائر وطوائف، على نفاذ القانون وحسن تطبيقه في الممارسة، وقد يأتي التأثير السلبي من مصادر أخرى علاوة على الولاءات الأولية، مثل “جماعات المصالح”، وأصحاب النفوذ المالي والاجتماعي،  والمقاومين للإصلاح والتغيير عموما. وفي بعض المجتمعات، قد تكون فكرة القانون غير مترسخة بما يكفي في وعي الناس وثقافتهم الجمعية، فيقع رفضها ونفيها، أو على الأقل الالتفاف عليها وتوجيهها بشكل منحرف.

لكن، لنتأمل في بناء الديمقراطية بالقانون من زاوية أخرى، وتحديدا من باب تحققها في التاريخ في بعض مناطق العالم. فلو أمعنا النظر في تجربة الديمقراطية الأوروبية والغربية عموماً، لانتبهنا إلى أنه لم يكن في مستطاع القانون لوحده حسم مشكل الدّمقرطة، لو لم تتكاثف عوامل حاضنة كثيرة، وفي مقدمتها النهضة الحاصلة في الأبنية الاقتصادية، والأنسجة الاجتماعية، والأطر السياسية والثقافية. لذلك، يُصبح القانون حافراً على الدمقرطة وميسرا لها حين تتوفر له البيئة العامة الحاضنة له، وليس طارِدة لتأثيراته الإيجابية العميقة. وبمفهوم المخالفة، يمكن الإقرار، بدون تردد، أن بيئات البلاد العربية، وإن بدرجات متفاوتة، طاردة ونابذة للأدوار المطلوبة من القانون القيام بها لإنجاح سيرورات الدمقرطة في مجالنا السياسي العربي.

قد يقول قائل إن هناك ضمانات لنفاذ القانون، ومؤسسات مسؤولة عن فرض احترام القانون وسلامة تطبيقه، أكان من فصيلة القوانين الأساسية الموسومة بالسمو والعُلوية (الدساتير(، أم مجرد قوانين تنظيمية وعادية، وبالتالي تتحمل هذه المؤسسات قسطاً من المسؤولية في الدور المحدود للقانون في إنجاز عملية الدّمقرطة. ثم من جهة أخرى، هناك نصيب من المسؤولية للمجتمعات، أي المواطنين في ترهّل دور القانون في تحقيق المطلوب منه، وأن الناس بحكم تدني فهم للقانون، وانخفاض درجة تمثلهم لقواعده، ومحدودية المصالحة معه، لا تعير اهتماما للقانون، وتبحث بكل الوسائل عن طرق وآليات  التنصّل من نفاذه، والحقيقة أن هذا الأمر حاصل في أكثر من بلد عربي، وطالما ما يستند الناس في تبرير عدم احترامهم لأحكامه في الممارسة، إلى واقع القانون في حياتهم اليومية، إذ كثيرا ما يشاهدون أشكال اغتصابه وعدم الاكتراث بإلزاميته.

لا يختلف اثنان في أن النظر في مدى قدرة القانون على إنجاح الدمقرطة في بلداننا العربية هو موضوع معقد ومفتوح على أكثر من قراءة. أما سبب ذلك، فمرده إلى تعقد المجتمعات العربية ذاتها، وعدم استقامة اشتغال مؤسساتها، وتدني الثقافة السياسية لمجتمعاتها. لذلك، لا يبدو أن ثمة إمكانية واضحة للجزم بأن القانون قادر فعلا على الدمقرطة في مجالنا العربي، بل ربما تحتاج العملية إلى وقت ونُضج أكثر.. تلك جملة من الأفكار التي أوحت لي بها بعض الأوراق العلمية المقدمة في المؤتمر العلمي الرابع لكلية القانون الكويتية العالمية الملتئمة في مدينة الكويت يومي 10 و11 ماي الجاري، والذي كان مؤتمرا ناجحا بكل المقاييس.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *